قصة الإسلام في شرق إفريقيا
اتصل العرب بإفريقيا بغرض التجارة، فلمَّا اشتدَّ أذى المشركين كانت الهجرة إلى النجاشي في الحبشة، فكان ذلك أولى خطوات الإسلام في إفريقيا، ثم انتشر الإسلام ودخل شمال إفريقيا، وبعد انهيار الخلافة الأُموية، هرب بعض الأمويون إلى الأندلس وبعضهم إلى إريتريا فنشروا الإسلام، وكذلك هاجر بعض العرب من دولة القرامطة إلى الصومال فأسسوا مدينة مقديشيو، وكوَّنوا فيها مجلس المدينة، ثم تحولت إلى سلطنة فيما بعد، فأصبح شرق إفريقيا موطنًا للإسلام والثقافة الإسلامية.
وعند سقوط الأندلس بدأت حملات اكتشاف أوربا للقارة، فاحتلوا جزيرة زنجبار، فوقع العالم الإسلامي تحت الاحتلال من مختلف الدول الأوربية، وبدأ النضال الإسلامي للاستقلال، فظهر في الصومال محمد بن عبد الله حسن الشهير بالمُلاَّ، فاستطاع أن يستقلَّ بالبلاد مدَّة عشرين عامًا، وبَرَزَ في مقديشو حزب "رابطة وَحدة الشباب"، أمَّا جيبوتي فكانت جزءًا من الصومال واحتلتها فرنسا. وفي إثيوبيا (الحبشة) استمرَّ الحكم الإسلامي أربعمائة سنة، ثم جعل الاستعمار السلطة في يد النصارى، وقد حرصت الحكومات على إبقاء الطابع المسيحي للحبشة.
أما إريتريا فرغم الأغلبية المسلِمَة إلا أنها وقعت تحت الاحتلال الحبشي، وانسحبت مصر من إريتريا بسبب وقوعها تحت الاحتلال البريطاني، واحتلتها إيطاليا، ثم ضُمَّت إريتريا للحبشة، وبدأ اضطهاد المسلمين، وانتشرت الهيئات التنصيرية. وأما تنزانيا فسيطر عليها العُمَانيون، ثم احتلتها ألمانيا، وقد وقَّع السلطان العُمَانِيُّ تنازلاً للشركة الألمانية عن أملاكه في الشريط الساحلي، ثم استقلَّت زنجبار وضُمَّت إلى تنجانيقا؛ لتكون فيما بعدُ جمهورية تنزانيا عام 1964م، وعانى المسلمون من الاضطهاد حتى إن الفتياتِ المسلماتِ أُجبرن على الزواج من النصارى.
هذه الدُّول يغلب الإسلام بين أهلها؛ إلا أنها تتعرَّض لمجموعة من المعوِّقات؛ مثل: وجود الحملات التنصيرية بين أهلها خاصَّة في إريتريا وإثيوبيا، وكذلك موزمبيق، وانتشار الفقر والصراعات الداخلية مثل الصومال، أو المعوقات الاقتصادية وعدم استغلال الموارد الداخلية مثل جزر القمر.
وخضعت كينيا للاستعمار البريطاني الذي أراد التخلص من اللغة العربية، وذلك بكتابتها باللغة اللاتينية؛ لصرف المسلمين عن قرآنهم، وجاء الشيخ الأمين علي المازروي الذي تأثَّر بحركات الإصلاح التي ظهرت في العالم الإسلامي، وقام بإصدار صحف ومدارس وإنشاء مشروعات إسلامية متعدِّدة. أما "أوغندا" فكانت تَدِينُ بالإسلام دِينًا رسميًّا، وكان ملكها يَؤُمُّ الناس في الصلاة، فأرسل الخديوي إسماعيل ضباطًا لاكتشاف منابع النيل، وقام بضمِّ "أوغندا" إلى مصر وسمَّاها مديرية خطِّ الاستواء، وكان لهذا أثر طيِّب في تثبيت العقيدة الإسلامية بين الأهالي، فجاء الاستعمار البريطاني، وأعلنت بريطانيا عدم دخول أي مسلم إلى أوغندا إلا بإذن مُسْبَق، ثم استقلَّتْ ثم وقع خلاف بين تنزانيا وأوغندا.
أما مدغشقر فقد انتشر الإسلام فيها، واستعمرتها فرنسا، وشجَّعت البعثات التنصيرية، وفرضت العزلة على المسلمين، فقامت عدَّة ثورات ضدَّ الفرنسيين، وعانى المسلمون مشكلة في التعليم عامَّة وتعليم أمور دينهم خاصة.
العرب وإفريقيا.. علاقات قديمة
للإسلامِ في كلِّ مكانٍ وَصَلَ إليه قِصَّةٌ؛ تحكى جهود الأجداد في نشر الإسلام في ربوع الأرض، وبين كل البشر، ليَعُمَّ الخيرُ، وينتشر العدلُ، وتُشرق الأرض بنور ربها.
ومن بين البقاع التي نَعِمت بنور الإسلام في وقت مبكر، تلك الأرض الممتدة على الساحل الشرقي للقارة الإفريقية والأراضي القريبة منها كذلك، والتي تضم اليوم مجموعة من الدول هي إريتريا وإثيوبيا والصومال وكينيا وتنزانيا وأوغندا وجيبوتي وموزمبيق ومدغشقر وملاوي وزامبيا وزمبابوي وبوروندي ورواندا وجزر القمر وموريشيوس وسيشيل... وقد كان يُطلق على الأراضي الساحلية منها[1] أرض الزنج[2].
غير أننا قبل أن نخوض في العَلاقات الوثيقة بين الإسلام وشرق القارة السمراء، نغوص معًا في أعماق التاريخ لنبدأ القصة من أوَّلها، ولنكشف الستار عن الأحداث التي مهَّدت لهذه العَلاقات الوطيدة التي جاء الإسلام ليُثَبِّتها ويُوطِّدها، لا ليبتدئها أو ينشئها.
كان السبئيون (عرب جنوب شبه الجزيرة العربية) أول الشعوب العربية التي أتت إلى الساحل الشرقي لإفريقيا بغرض التجارة لا الغزو، وعلى الرغم من أنهم وفدوا في أعداد قليلة إلا أنهم داوموا في تجارتهم، واختلطوا بأهل الساحل، وتزوَّجوا منهم، وأقاموا محطات تجارية، وفي منتصف الألف سنة التي سبقت ميلاد المسيح u بدأ الطابع العربي يَظْهَر على طول الساحل، ولم يَفْقِد هذا الساحل شخصيته المميَّزة، إذ كان يُدْعَم بشكل دائم بالوافدين من جزيرة العرب والخليج العربي[3].
ويذكر مؤرِّخو الإغريق القدماء عن "الزنج" الذين كانوا يعيشون في سواحل شرق إفريقيا، أنهم شيَّدوا مدنًا ساحلية كانت على عَلاقات تِجارية راسخة مع شبه الجزيرة العربية والهند[4].
ومن المرجَّح أن يكون عرب جزيرة العرب -خاصَّة عرب الجنوب- هم أقدم الشعوب العربية اتِّصالا بالسواحل الشرقية الإفريقية، بحكم الجوار الجغرافي، وساعدهم على قيام هذه الصلات نظام الرياح الموسمية، والتي كانت تمكِّن السفن الشراعية الصغيرة من القيام برحلتين على الأقل في العام؛ ففي الخريف تدفعها الرياح الموسمية الجنوبية الغربية من خليج عُمَان وسواحل الجزيرة العربية نحو الساحل الإفريقي، وفي فصل الربيع تدفعها في اتجاه الشمال الشرقي، حيث تمكِّنها من العودة إلى قواعدها، وفي خلال دورة الرياح يتمُّ التعامل التِّجاري[5].
كانت تلك إذن هي بدء العَلاقات بين سكان شبه الجزيرة العربية وبين شرق القارة الإفريقية، وقد مهَّدَ هذا الأمر لوصول الإسلام ثُمَّ نَشْرِهِ بعد ذلك في تلك الأماكن.
هجرة المسلمين للحبشة
وقد كانت التجارة بين عرب شبه الجزيرة العربية وشعوب شرق إفريقيا ما زالت مستمرَّة حين جاء الإسلام، فلمَّا اشتدَّ أذى مشركي مكة للمسلمين أذن رسول الله r لبعض أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، حيث يوجد بها النجاشي، ولقد وصفه الرسول r بأنه لا يُظلم عنده أحد، ومن ثَمَّ كان اختيار الحبشة كمكان لهجرة المسلمين ابتداءً، وكان الاستقبال الحافل والحفاوة البالغة التي تمَّ بها استقبال المسلمين كَفِيلَة باستمرارهم، وتَكَرَّرت هجرتهم مرَّة أخرى بِفَوْج أكبر من الفوج الأول، فبلغ عددهم ثلاثة وثمانين رجلاً وتسعَ عشرةَ امرأة[6]، وقد حاولت قريش الإيقاع بين المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة وبين النجاشي ومَن معه من النصارى، ولكن قوَّة الحُجَّة عند المسلمين وحُسْن تصرفهم حالَ دون هذه الوقيعة، وازداد تمسُّك النجاشي بهم وحمايته لهم[7].
وقد كان للعَلاقات الودِّيَّة بين الرسول r والنجاشي، والمعاملة الطيبة التي لقيَها المسلمون المهاجرون إلى الحبشة أكبر الأثر في توثيق العَلاقات بين نصارى الحبشة وبين الإسلام، إلاَّ أن هذه الهجرات الإسلامية الأولية في عهد رسول الله r لم تترك أثرًا في حياة البلاد، وإن كانت قد تركت أثرًا في نفوس الأحباش، وأطلعتهم على الينبوع الرُّوحي الجديد المتفجِّر بالقوَّة والحياة، ووطَّدت الصلات بين الدولة الإسلامية في عهد الرسول r وبين الأحباش، وحين بلغ الرسولَ r وفاةُ النجاشي صلَّى عليه هو وأصحابه[8]؛ فعن أبي هريرة t قال: نعى لنا رسول الله r النجاشي صاحب الحبشة اليومَ الذي مات فيه فقال: "اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ". وعنه أيضًا t قال: إِنَّ النَّبِيَّ r صَفَّ بهم بِالْمُصَلَّى فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا[9]. وعن عروة بن الزبير t، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما مات النجاشي كان يُتَحَدَّث أنه لا يزال يُرَى على قبره نور[10].
وفي السنة التاسعة من الهجرة، أرسل رسول الله r الصحابي الجليل علقمة بن مُجَزِّز t على سريَّة في اتجاه الحبشة؛ لأن بعض مراكبهم كانت تقترب من مكة بحرًا، ولكنه لم يَلْقَ كيدًا كما تَذْكُر الرواية[11].
ومن هنا كانت منطقة شرق إفريقيا أسبق بقعة في العالم القديم في استقبال الدعوة الإسلامية الخالدة[12].
فتح الحبشة
لم تكن الحبشة ضمن الممالك التي وجَّه المسلمون إليها حملاتهم في ذلك العهد الأول الذي شهد الفتوحات الإسلامية العظيمة لنشر دين الإسلام، ويبدو أن ذلك راجع إلى عدَّة عواملَ، منها تركيز المسلمين على كسر شوكة الإمبراطوريتين المجاورتين لبلاد العرب، واللَّتين يُخشى منهما على الدولة الإسلامية الناشئة وهما إمبراطورية الفرس والإمبراطورية الرومانية الشرقية، وكذلك اعتبار المسلمين أن مصر أكثر أهمية من الحبشة لمركزها المهم وسبقها في ميدان الحضارة والعمران. ومن أهمِّ الأسباب أيضًا قُرْب عهد المسلمين بالعَلاقات الطيبة التي كان للنجاشي فيها فضلٌ مشكور، حتى يُروى أن النبي r نَصَحَ بِتَرْكِ الأَحْبَاشِ وشأنهم طالما أنهم لم يبدءوا بالعدوان، ففي الحديث الشريف: "اتْرُكُوا الْحَبَشَةَ مَا تَرَكُوكُمْ"[13].
ولكن بعد فترة من الزمن أخذ بعض القراصنة الأحباش يهدِّدون تجارة العرب في البحر الأحمر، مما اضطرَّ الخليفة عمر بن الخطاب t إلى إيفاد حملة بحرية صغيرة لتأديبهم، ولكنها لم تُكَلَّل بالنجاح.
وعاود القرصان نشاطهم مرَّة أخرى في عصر الخلافة الأموية، حيث اتخذوا من خرائب ميناء "عدوليس"[14] على جدة مأوى لهم، ودمروا السفن الراسية فيه، بل وهدَّدوا الأماكن المقدسة في مكة والمدينة، فاضطرَّ المسلمون عام 83هـ إلى اتخاذ خطوة حاسمة لوضع حدٍّ لتلك العمليات، بأن جرد عبد الملك بن مروان حملة بحرية لاتخاذ مركز حربي على الشاطئ الغربي، وتمَّ الاستيلاء على مجموع جزر "دهلك"[15] المجاورة لمدينة "مصوع"[16]، وكان أَخْذُ المسلمين لهذا المركز الممتاز بَدْءَ استيلائهم على باقي المراكز البحرية على الشاطئ الإفريقي، وعلى الانتشار التدريجي للإسلام في شرق إفريقية[17].
السيطرة على دهلك
كانت السيطرة العربية على جزر "دهلك" سببًا في تطوُّرات عديدة مُهِمَّة في تاريخ المنطقة، من أهمها أنها أعطت فرصة لانتشار الإسلام من قاعدة ثابتة، فضلاً عن ارتباط حركة التجارة في المنطقة بالواقع الجديد الذي أحلَّ النظام والعدل محلَّ الفوضى والقرصنة[18].
وتَنْسِب الروايات تأسيس الإمارات العربية الأُولَى في شرقي إفريقيا لعهد عبد الملك بن مروان ورجاله الشاميين، وما زال اسم عبد الملك بن مروان يُذْكَر في تلك الجهات، لدرجة أن السكان قد حرَّفوا اسمه، فينطقون (عبد المالك) (ابن مرواني)، ومرُّد ذلك ضعف اللغة العربية وظهور اللغة السواحلية.
وفي أواخر عهد الدولة الأموية كانت هجرة الزُّيُود من اليمن عقب مقتل زيد بن علي زين العابدين عام (122هـ/740م)؛ فِرَارًا من اضطهاد بني أمية لهم، وعُرِف هؤلاء بالزيدية، واستقرَّت هذه الجماعات -كما أشارت المصادر- في ساحل (بنادر) الصومالي، وحكموا فيه ما يقرب من مائَتَيْ سنة، ونشروا الإسلام بين قبائل (بنادر)، كما أصلحوا الأراضي، وزرعوا بعض النباتات، بل توغَّل الزيدية إلى داخل الأراضي الصومالية ونشروا الإسلام بين قبائل (أنهار جوبا) و(شبيلي) من بينها قبائل (الجالا) التي اعتنقت الإسلام بحماس كبير، بدليل أن كثيرًا من الصوماليين من أفراد هذه القبائل قد أصبحوا فقهاء ووعَّاظًا، واضطلعوا بنشر الإسلام بين القبائل الوثنية[19].
[1] أي الممتدة بين الصومال وموزمبيق.
[2] جوان جوزيف: الإسلام في ممالك وإمبراطوريات إفريقيا السوداء، ترجمة مختار السويفي، ص131.
[3] محمود محمد الحويري: ساحل شرق إفريقية من فجر الإسلام حتى الغزو البرتغالي ص16.
[4] جوان جوزيف: الإسلام في ممالك وإمبراطوريات إفريقيا السوداء، ترجمة مختار السويفي، ص131.
[5] عبد الفتاح مقلد الغنيمي: الإسلام والمسلمون في شرق إفريقيا ص22، 23.
[6] ابن قيم الجوزية: زاد المعاد 3/20.
[7] انظر في هذه الأحداث: ابن هشام: السيرة النبوية 1/330 وما بعدها.
[8] عبد الفتاح مقلد الغنيمي: الإسلام والمسلمون في شرق إفريقيا ص44.
[9] البخاري: كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد (1263).
[10] رواه أبو داود (2523)، وضعفه الألباني، انظر ضعيف سنن أبي داود (542). وانظر: ابن هشام: السيرة النبوية 1/340.
[11] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 8/59، ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/163، ابن قيم الجوزية: زاد المعاد 3/ 515.
[12] عبد الفتاح مقلد الغنيمي: الإسلام والمسلمون في شرق إفريقيا ص42.
[13] رواه أبو داود (4302)، وأحمد (23203) وقال شعيب الأرناءوط: صحيح لغيره وهذا إسناد حسن في الشواهد. والحاكم في المستدرك (8396)، وقال الذهبي في التلخيص: صحيح. وصححه الألباني، انظر السلسلة الصحيحة (772).
[14] يقع على بعد 40 كم جنوب ميناء مصوع الحالي.
[15] جزر دهلك: التابعة لدولة إريتريا حاليًا، والواقعة على الساحل الجنوبي الغربي للبحر الأحمر وهي على بعد 60 كم من مدينة مصوع.
[16] إحدى أشهر المدن الساحلية الأريترية اليوم، وبها أحد أكبر ميناءين في إريتريا.
[17] فتحي غيث: الإسلام والحبشة عبر التاريخ ص59، 60.
[18] محمد عثمان علي خير: عروبة إريترية (حقائق ووثائق) ص42.
[19] غيثان بن علي بن جريس: مجلة العرب، العدد (3)، السنة 30، ص185-202.
انتشار الإسلام في غرب إفريقيا
كان من أهمِّ أسباب انتشار الإسلام عَبْر ربوع إفريقيا أيضًا بساطة تعاليمه، وسهولة فَهْمه، ويُسْرُ الدعوة إليه، فكلُّ مسلم يُعْتَبَر داعية، فلا توجد تعقيدات كهنوتية كما في المسيحية، وما يكتنفها من غموض، مما يجعلها صعبة الفَهم بالنسبة للإفريقي، وعلى العكس يَسَّرَت تعاليمُ الإسلام وسُمُوِّها بالبَشَرِ ومساواتها بين الناس سهلت مهمَّة الدعوة للإسلام، وأيضًا مما ساعد على انتشار الإسلام عدالته ومساواته بين الناس، وبغضه للتفرقة العنصرية، وهي عُقْدَة الأفارقة، حيث مارسها بعضهم، ويمارسون جميع ألوانها في جنوب إفريقيا تحت ظلال المسيحية، مما يجعل الأخوة في كنف التنصير ليست إلا أكذوبة، لَمَسَها الإفريقي واقتنع بها[20].
وبعد انهيار الخلافة الأُموية، انقسم الهاربون من الخلافة العباسية إلى قسمين: أحدهما اتجه إلى الأندلس، وأنشأ الدولة الإسلامية بالأندلس، والآخر اتجه إلى إريتريا؛ لبُعدها عن مركز الخلافة العباسية في بغداد، وكونها خصبة للتجارة بالنسبة للأمويين الهاربين من الحكم العباسي، وللدعوة بالنسبة لآل البيت (الأشراف).
وقد تزامن هذا مع صراعات عنيفة داخل الممالك الحبشية، ممَّا عزلها تمامًا عن التأثير في الأحداث، بسبب الصراعات التي نشبت بين الأسرة السليمانية وأسرة زاقي، وقد وطَّد الإسلام في هذه الفترة أقدامه في التُّرْبة الإريترية مِن بَدْء مجيئه، فأسلم "آل الجبرتا"، وإليهم ينسب المؤرخ المصري الشهير عبد الرحمن الجبرتي، ولهم رواق خاصٌّ بهم بالجامع الأزهر الشريف، ما يزال موجودًا حتى الآن، ويُسمَّى "رواق الجبرتا"، وكانوا من أوائل الناس إسلامًا في إريتريا، وقد ذهب منهم وَفْدٌ ضِمْنَ وفد النجاشي للرسول r، وكانوا يقطنون هضبة "التجراي"[21].
بناء مقديشو
تأسَّست مدينة مقديشو في عهد الخلافة العباسية ، ولهذا التأسيس قصة، فحينما وصلت أكبر الهجرات العربية والإسلامية إلى ساحل الصومال، المعروف بساحل (بنادر)، وهي هجرة الإخوة السبعة، فقد هاجرت هذه الجماعة العربية في مَشَارِف القرن العاشر في حوالي عام (301هـ/ 913م) من (الأحساء) عاصمة دولة القرامطة، والإخوة السبعة من قبيلة (الحارث) العربية، جاءوا في ثلاث سفن محمَّلة بالرجال والعتاد الحربي، وقد نما إلى علم هذه الجماعة العربية أخبار الجماعات العربية التي سبقتهم إلى ذلك الساحل، وربما سمعوا عنها من التجار، أو من جنود سعيد الجنَّابي، وقد كان في صفوفهم جندٌ من الزنج والأَرِقَّاء الذين جاءوا إلى الجزيرة العربية والعراق في فترة من الفترات؛ لذلك قرَّرت هذه الجماعات الإسلامية أن تحذُوَ حَذْوَ الهجرات التي سبقتها، يراودهم الأمل العريض في تكوين وطن جديد، وقد تحقق لهم ما أرادوا بفضل جهودهم.
استولى الإخوة السبعة على كل سواحل (بنادر) بعد أن قاموا بتأسيس مدينة (مقديشو)، والتي جعلوها عاصمة لدولتهم الجديدة، فامتدَّ نفوذهم حتى جنوبي (ممبسة)، وربما وصلوا إلى جزيرة (مدغشقر)، وقد وصف المسعوديُّ هذه الجزيرة، وذكر أن فيها قومًا من المسلمين.
ولم تمضِ فترة طويلة على استقرار هذه الجماعات المسْلِمَة، حتى أصبح كل الساحل سُنِّيًّا على المذهب الشافعي، وذلك بعد أن اصطدم الإخوة السبعة بالزيدية الشيعة، الذين اضطروا للانسحاب إلى الداخل، ولا يزال المذهب الشافعي هو السائد في بلاد شرقي إفريقيا، وقد اكتفى هؤلاء المسلمون على بسط نفوذهم في المنطقة الساحلية فقط؛ إذْ إنَّ الداخل لم يكن معروفًا لديهم، إما لأنهم يجهلونه، أو لصعوبة التوغُّل، فسيطروا على الساحل ريثما يتمُّ لهم كشف مجاهل إفريقيا المختلفة، وكان من نتيجة هذه الهجرة الأخيرة أن بسطت (مقديشو) نفوذها، وساعدت العرب المسلمين على إنشاء مواطن استقرار على طول الساحل الممتدِّ من (مقديشو) في الشمال إلى مدينة (سوفالا) في الجنوب.
شكل الحكومة
وبعد أن تغلَّب الإخوة السبعة على الصعاب التي واجهتهم في أوَّل أمرهم، بدءوا في وضع الأُسُس والتشريعات المختلفة التي تَكْفُل لهم الاستقرار والحياة الكريمة، فتكوَّن مجلس من كبار المسلمين، وأعضاؤه اثنا عشر شخصًا، يرأسهم شيخ لا يحمل لقب سلطان أو مَلِكٍ، ويُسَمَّى هذا المجلس باسم (مجلس المدينة)، وكان هذا النظام أفضل نظام طبّقه المسلمون في ساحل (بنادر) في العصور الوسطى، ويتمتَّع هذا المجلس بِكُلِّ السلطات، وله حقُّ النظر في القضايا المدنية والجنائية وفضِّ المنازعات، وكان بجانب هذا المجلس مجالسُ فرعية في كل حيٍّ من أحياء المدينة، وهي في شكل طائفة تَخْضَع لشيخها الذي يتولَّى أمرها، ويقوم بإكرام الغرباء، وقضاء حاجاتهم.
كان اختصاص هذا المجلس هو حفظ الأمن، وتطبيق العدالة بين الجماعات، ووضع حَدٍّ لهجمات بعض القبائل الرعوية الصومالية على التجار من العرب والفرس، وبالتالي لمواجهة غزاة آخرين كانوا يأتون من البحر، وتمَّ هذا الاتحاد بعد أن أصبحت (مقديشو) عاصمة لساحل بنادر، والذي ضمَّ هذه المشيخة وإماراتها التابعة لها، مثل: مركة، وبراوة التي سيجيء تفصيلهما، هذا إضافة إلى الأراضي المحيطة بهم، وكان يطلق على جميع هذه الأراضي (مقاديش)، وعُرِف أحيانًا سكان هذه الجهات باسم سكان بنادر، وبضائعهم باسم بضائع بنادر.
لقد استمرَّ مجلس هذه المشيخة والممثَّل في سلطة الشورى بين المسلمين والفرس والصوماليين نحو أكثر من مائتي عام على ذلك النحو، حتى انْتُخِبَ أبو بكر فخر الدين عام 1100م حاكمًا على جميع أراضي هذه البلاد، وهو من سلالة الإخوة السبعة بتعضيد من قبيلة بني قحطان العربية التي أصبح لها النفوذ والسيادة.
وفي عهد أبي بكر فخر الدين احتفظت قبائل قحطان ومكري بنفوذها ومكانتها الدينية الممتازة؛ لأن قاضي الوَحدة قبل قيام السلطنة التي أسَّسها أبو بكر فخر الدين كان من بين أبناء هاتين القبيلتين، وبفضل قبائل قحطان ومكري استطاع أبو بكر فخر الدين أن يُقِيم سلطنة وراثية في (مقديشو)، كما أقرَّ السلطان أبو بكر قبائل مكري على امتيازاتها، وقد استمرَّ حُكْم أبي بكر فخر الدين سبعةَ عشَرَ عامًا حتى تُوُفِّيَ عام 1117م[22].
اضمحلال سلطنة (مقديشو)
أما في عصر المماليك فقد كان للأحباش اتِّصال دائم مع ملوك أوربا للعمل معًا ضدَّ المسلمين، وقد ظهر هذا خلال أوقات متباعدة، فعند الغزو الصليبي قدَّم الأحباش المساعدات، وأصبح لهم دَيْر خاصٌّ في بيت المقدس، وحرصت الحبشة على مساعدة مَلِكِ قبرص النصراني، وتحريضه على غزو مصر، وكان نتيجة لذلك غزو الإسكندرية عام 767هـ، وأقدمت الحبشة على القيام ببعض الأعمال التخريبية، إلا أن تحرُّك الجيوش المملوكية قد حال دون استمرار أعمال الأحباش.
وعندما فتح المماليك في مصر "جزيرةَ قبرص" عام 830هـ/ 1427م اتَّصل الأحباش بملوك أوربا للعمل ضدَّ المماليك، وقد تجاوب مع ذلك ملك فرنسا وملك أرغون، وهدَّد مَلِكُ الحبشة المماليكَ بالقيام بغزو بلاد العرب والأماكن المقدسة، وتحويل مجرى نهر النيل[23].
وفي مطلع القرن العاشر الهجري حملت راية الجهاد في شرق الحبشة إمارة "عدل"، ووصل نفوذها إلى حافَّة الهضبة الحبشية، في الوقت الذي كان العثمانيون يدخلون من الشمال لبلاد العرب؛ ليُوَحِّدوا المسلمين، ويقفوا في وجه البرتغاليين وأطماعهم في المنطقة، إلا أن حُكَّام إمارة "عدل" قد اضطروا فيما بعدُ إلى مسالمة الأحباش بعد أن هُزِمُوا أمامهم.
ثم حملت إمارة "هرر"[24] راية الجهاد، وأسلمت الشعوب البدوية مثل "الدناقل" وغيرها، وشجع الهرريُّون وصول العثمانيين إلى المنطقة، ووقوفهم في وجه الحلف البرتغالي الحبشي، إذ دَعَمُوا سلطان "هرر" أحمد بن إبراهيم الملَّقب بالقرين، وأمدُّوه بالأسلحة، فاستمرَّت غزواتهم في الحبشة خمسةَ عشرَ عامًا، وكانت النتيجة أن دخل سلطان "هرر" أجزاءً من هضبة الحبشة، وعاد إلى الإسلام عدد من الذين سبق لهم أن تنصّروا تحت ضغط الأحباش، كما بدأت قبائل "الجالا" الوثنية الدخول في الإسلام، كما أن هذه القبائل قد استغلَّت الخلاف الذي حدث بين الأحباش والبرتغاليين فشقَّت طريقها إلى الهضبة من الجنوب.
وازداد عدد المسلمين في القرن الحادي عشر الهجري، ودخل التُّجار الكانميُّون[25] إلى بلاد الحبشة، فأسلم على أيديهم كثيرون، واتَّجه المظلومون من الأحباش إلى عدالة الإسلام، وكان المسلمون من الأحباش ذوي مكانة اجتماعية وثقافية وخُلُقِيَّة، معرُوفِينَ بالجدِّ في العمل، والأمانة في المعاملة، وقد عَرَف لهم هذا الأحباشُ الذين كانوا على غير دينهم، إلاَّ أن بعض المتعصِّبين من النصارى كثيرًا ما كانوا يُسِيئُون إلى المسلمين، ويُصِرُّون على إقصائهم عن الوظائف الرسمية، ومع هذا فقد وَجَد الإسلامُ طريقَه إلى قلوب كثير من الزعماء[26].
[20] نوال عبد العزيز راضي: الإسلام والمسلمون في وسط إفريقيا ص16.
[21] محمد عثمان علي خير: عروبة إريترية (حقائق ووثائق) ص42، 43.
[22] غيثان بن علي بن جريس: مجلة العرب، العدد 3، السنة 30، ص185-202.
[23] إسماعيل أحمد ياغي، محمود شاكر: العالم الإسلامي الحديث والمعاصر 2/252.
[24] تقع مدينة هرر في الجنوب الشرقي من إثيوبيا.
[25] مملكة كانم: هي مملكة قامت شمال شرق بحيرة تشاد، وقامت بدور فعّال في نشر الإسلام والثقافة العربية في تلك الربوع الواسعة.
[26] إسماعيل أحمد ياغي، محمود شاكر: العالم الإسلامي الحديث والمعاصر 2/252، 253.
انتشار الثقافة العربية الإسلامية
انتشرت الثقافة العربية الإسلامية في منطقة الساحل وبين السكان على اختلاف عناصرهم بالعلوم الدينية واللغة العربية، فمِن "كلوة"[27] سافر طلاب العلم إلى شبه الجزيرة العربية ليَنْهَلُوا من علوم المعرفة، وكان مِن بينهم الأمراء، فقد تَنَقَّل السلطان أبو المواهب (1308- 1334) قبل ارتقائه عرش السلطنة في "كلوة" بين عدن ومكة لطلب العلم، وكان قد وصل إلى مكة وهو لم يزل في الرابعة عشرة من عمره، وممَّا يُؤَكِّد شدَّة حاجة سكان الساحل إلى تحصيل العلوم العربية ما رواه أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد العزيز الميورقي (ت 474هـ)، الذي زار البصرة في سنة 469هـ/ 1076م، إذ رَكِبَ من عمان إلى "بلاد الزنج"، وكان معه من العلوم أشياء فما نَفَق عندهم إلا النحو، وقال: لو أردت أن أكسب منهم ألوفًا لأمكن ذلك، وقد حصل لي منهم نحو ألف دينار، وتأسَّفوا على خروجي من عندهم[28].
ومن الجدير بالذكر أن المدَّ الإسلاميَّ الوافد إلى ساحل شرق إفريقيا في ركاب الهجرات الإسلامية القادمة من جنوب الجزيرة العربية ومنطقة الخليج العربي لم يتوقف على مرِّ السنين، وتوقَّف على ذلك أن تأسَّست مدن إسلامية مزدهرة على الساحل صارت بيئة صالحة لانتشار الإسلام بين الأفارقة من ناحية، وتغَلُّب مظاهر الثقافة العربية الإسلامية عليهم من ناحية أخرى.
ونلْمَسُ ذلك بوضوح في دولة الزنج التي ظهرت في الساحل في القرن العاشر الميلادي، وظلَّت باقية حتى أوائل القرن السادس عشر، رغم القلاقل والانقسامات التي تنازعتها، فقد شيَّدت تلك الدولة عدَّة مدن إسلامية، وأقامت المساجد في كل مدينة، حيث عَرَف الكثيرُ من القبائل الطريقَ إليها، وفي هذا المظهر الديني يتوفَّر الدليل القاطع على أن كثيرًا من الأفارقة قد تحوَّلوا إلى الإسلام.
والحقُّ أنه من المبالغة أن نقول إن الوثنية اختفت تمامًا من المدن الساحلية، حيث ما زالت تعتنقها عدَّة قبائل، وإن كان لا يمكن أن نقارنها بمراكز الوثنية في مناطق الأدغال في غرب ووسط وجنوب القارة الإفريقية، ولكن هذا لا يُقَلِّل من الدور الذي قامت به دولة الزنج في الدعوة إلى الإسلام، وقد كان بوُسع تلك الدول أو العرب المسلمين المقيمين على طول الساحل أن يَصْبُغوا الأفارقة كلَّهم بطابع الإسلام لو لم تقتحم أساطيل الغزو البرتغالي في أوائل القرن السادسَ عشرَ مياه هذا الساحل، الأمرُ الذي أعاق مسيرة المدِّ الإسلامي والثقافة العربية الإسلامية قُرَابة قرنين ونصف، وهي حِقبة طويلة[29]؛ لتبدأ إفريقيا عهدًا جديدًا، وهو عهد الاستعمار الأوربي البغيض، الذي نهب خيراتها، وأذاقها الويلات.
وللحديث عن هذا العهد سنقسِّم دول شرق إفريقيا إلى دول ذات أغلبية مسلمة، وأخرى ذات أقلية مسلمة. أما الدول ذات الأغلبية المسلمة فهي الموضحة بالجدول التالي:
الدولــــــــــة
نسبة المسلمـــــين
الصومــــــال
100%
جيبوتـــــــي
100%
جزر القمـــــر
99.5 %
إريتريـــــــا
85%
تنزانيــــــــا
65%
إثيوبيــــــــا
65%
ورغم الأغلبية المسلمة إلا أن الأرثوذكسية هي الدين الرسمي للدولة!!
موزنبيــــــــق
55%[30]
[27] مدينة كلوة Kilwa تقع في تنزانيا حاليًا.
[28] محمود محمد الحويري: ساحل شرق إفريقية من فجر الإسلام حتى الغزو البرتغالي ص44. وانظر: ياقوت الحموي: معجم البلدان 5/247.
[29] محمود محمد الحويري: ساحل شرق إفريقية من فجر الإسلام حتى الغزو البرتغالي ص41، 42.
[30] انظر: د. شوقي أبو خليل: أطلس دول العالم الإسلامي، طبعة دار الفكر العربي، بيروت 2001م.
التحرك الصليبي ضد الإسلام
بدأت الصليبية العالمية في التحرك عقب سقوط الأندلس عام 1492م، فتوحَّدت كل القوى الصليبية بمباركة البابوية، والهدف هو تَعَقُّب المسلمين، والقضاء على آخر معاقلهم على الساحل الإفريقي، ترتَّب على ذلك أن قامت الحملات الاستعمارية المتتالية في محاولة جادَّة لتطويق المسلمين، وذلك بمساندة ملوك إفريقيا النصارى، وعلى رأسهم ملك الحبشة، فلمع نجم البرتغاليين والأسبان من القرن الخامس عشر حتى القرن التاسع عشر الميلادي، لكن الصبغة التي انتحاها كلٌّ من البرتغاليين والأسبان كانت صبغة صليبية صِرفة، من أجل القضاء على المسلمين، وتتبُّع الهاربين من الأندلس[31].
كان "فاسكو دي جاما" قد وصل إلى نهاية القارة الإفريقية عام 1491م ودار حول القارة الإفريقية حتى وصل إلى الساحل الشرقي، وقد رسا بأسطوله عند مصب نهر أطلق عليه الرحمة، فوصل إلى ثغر موزمبيق في مارس عام 1498م، وبعد رحيل فاسكو دي جاما قَدِم فرنسيسكو ألميدا[32]، وبدأت ظاهرة جديدة هي الاستعراض بالسلاح، من خلال الأساطيل البحرية البرتغالية في المحيط الهندي. وعلى الرغم من الترحيب الذي كان يَلْقَاه البرتغاليون من العرب والأفارقة إلا أن السياسة البرتغالية المتَّبعة كانت تعتمد على استعراض القوَّة، والبطش في التعامل، ولما احتلَّ البرتغاليون جزيرة زنجبار في الساحل الشرقي الإفريقي كان الهدف الأساسي لها هو محاربة الإسلام، وإجهاض الإمارات الإسلامية في شرق إفريقيا، وهو ما اتَّضح جليًّا حينما "استطاعت البرتغال عام 1542م أن تساعد الحبشة المسيحية، وأن تمنع القوَّة التركيَّة الموجودة في سلطنة عدن الصومالية من دخول المملكة الحبشية المسيحية"[33].
استقرَّ الأمر للبرتغاليين في الفترة ما بين 1498م إلى 1698م، قاموا خلالها بتكثيف مخططهم، وهو الدعوة للإنجيل والمسيح، وكانت الحروب الشرسة التي قامت بين البرتغاليين وقاطني المناطق الشرقية من إفريقيا -خاصَّة المسلمين منهم- بمنزلة حروب صليبية حقيقية على غرار ما كانت من الأوربيين أنفسهم في حوض البحر المتوسط خلال القرن الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين.
وحينما سقطت البرتغال في يد ملك إسبانيا فليب الثاني، وإعلانها تابعة لسلطان إسبانيا عام 1580م، بدأت البرتغال في فُقْدَان مستعمراتها الإفريقية، بسبب ضعف مواردها البشرية؛ فهي دولة صغيرة محدودة المساحة والسكان، وهو ما أدَّى إلى "عدم قدرتها على السيطرة التامة على هذه الإمبراطورية الساحلية الكبيرة، التي بسطت نفوذها عليها"[34].
الصراع العربي الأوربي في شرق إفريقيا
وعندما تحرَّرت عُمَان من الاستعمار البرتغالي عام 1650م في عهد الأمير سلطان بن سيف، هبَّ هذا السلطان في نفس العام لمهاجمة المستعمرات البرتغالية في السواحل الشرقية لإفريقيا، وبدأت الحاميات البرتغالية الممتدَّة على الساحل الشرقي في السقوط والتقهقر، حتى كانت النهاية الفاجعة للبرتغاليين والمتمثِّلة في سقوط قلعة يسوع المسيح، وإخضاع ممبسة عام 1698م، وبعد ضعف دولة اليعاربة في عُمَان، استقلَّت معظم الإمارات الإفريقية الشرقية، وكان ذلك في عام 1744م[35].
الاحتلال الأوربي للقارة الإفريقية
ولم تكد هذه الدُّول تستقرُّ حتى بدأت قوًى استعمارية أخرى لا تَقِلُّ خطورة عن البرتغاليين والأسبان، فتكالبت كلٌّ من فرنسا، وألمانيا، وإنجلترا، وبلجيكا، وهولندا، وإيطاليا، بجانب البرتغال وإسبانيا، على القارَّة الإفريقية العاجزة، وكان من جملة الأسباب الرئيسية في احتلال الأوربيين للقارة الإفريقية ما حدث بعد هزيمة الفرنسيين على يَدِ بسمارك المستشار الألماني، وعَقْدِ معاهدة فرانكفورت عام 1871م، التي أَجْبَرَت فرنسا على التنازل عن إلزاس واللورين[36] لألمانيا، وهو ما أهَّل ألمانيا من الناحية المعنوية وخاصَّة عند الشباب الألماني، والناحية المادَّية -والمتمثلة في زيادة الثروات الاقتصادية- في البحث عن مناطقَ جديدةٍ لفرض السيطرة، ولزيادة قدرتها التنافسية، من أَجْلِ تحسين صناعتها، وتطوير التجارة الألمانية.
ومع كلِّ هذه المخططات الألمانية لم تَكُنْ ألمانيا على استعداد في مواجهة جديدة ضدَّ أي قوَّة أوربية أخرى، خشية أن تَعْتَرِضَها فرنسا التي لم تَثْأَرْ لهزيمتها بعدُ، فاتَّجهت ألمانيا إلى القارة الإفريقية، وكوَّنت في غضون عام واحد أربع مستعمرات شملت كُلاًّ من تنجانيقا -تنزانيا حاليًّا- في شرق إفريقيا، والكاميرون وتوجو في الغرب، وناميبيا في جنوب غرب القارة الإفريقية[37].
كلُّ هذه التحرُّكات الألمانية وما قابلها من تحرُّكات فرنسية استعماريَّة في إفريقيا، دفعت بريطانيا للخروج من عزلتها وانحيادها في التحرُّك في جنوب القارة، فبدأت الصراعات بين القوى الثلاث، وبدأت المحالفات بين ألمانيا والبرتغال مذكِّرة الأخيرة ما كان لها من مجد قويٍّ يجب إحياؤه من جديد، وقد لاقت المعاهدة البريطانية البرتغالية الموثَّقة في عام 1884م معارضة قويَّة، أحدثت تقاربًا بين كُلٍّ من ألمانيا وفرنسا[38]، فأسرعت كلُّ قوَّة من هذه القوى في السيطرة على مناطق جديدة في القارة، فتطلعت إيطاليا في السيطرة على بعض الأجزاء وخاصَّة في المناطق الشرقية من إفريقيا، وفكَّر ملك بلجيكا ليوبولد في السيطرة على حوض نهر الكونغو، الذي كان منطقة استراتيجية[39]، كلُّ هذا بهدف بناء الإمبراطوريات، وتحقيق الأمجاد القوميَّة، وسيادة الرجل الأبيض، وتطبيق النظريَّات العنصرية، كلُّ هذه الأسباب جعلت الدول الأوربية تسعى سعيًا حثيثًا للجلوس معًا للتفاهم، وهو ما كان مسوِّغًا أساسيًّا في عقد مؤتمر برلين عام 1884- 1885م.
[31] عبد الله عبد الرازق: الإسلام وتحدّي الاستعمار الأوربي في إفريقيا ص9، 10 بتصرف.
[32] هو أحد قوّاد الملك "مانويل الأول" ملك البرتغال أرسله لاحتلال الهند، واستكشاف المناطق الساحلية المواجهة لبحر العرب.
[33] عبد الفتاح مقلد الغنيمي: الإسلام والمسلمون في شرق إفريقيا ص173.
[34] المصدر السابق ص185.
[35] السابق نفسه ص190-200 باختصار وتصرف.
[36] منطقتان فرنسيتان احتُلتا من قِبَلِ ألمانيا أثناء الحرب الألمانية الفرنسية عام 1871م، وقد استردتها فرنسا عقب هزيمة الألمان في الحرب العالمية الثانية.
[37] عبد الله عبد الرازق: الإسلام وتحدّي الاستعمار الأوربي في إفريقيا ص18، 19 بتصرف.
[38] المصدر السابق.
[39] يُعتبر حوض نهر الكونغو منطقة استراتيجية بالنسبة لكل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا، باعتباره منطقة مهمة للنفوذ التجاري لكل من البلدان السابقة.
تقسيم إفريقيا
دَعَتْ بريطانيا ألمانيا إلى عقد مؤتمر دُولي لشئون إفريقيا في برلين، يجمع الدُّول المتصارعة مع روسيا، والنمسا، والدنمارك، والسويد، وإيطاليا، وتركيا، والولايات المتحدة، واتخذ المؤتمر مجموعة من القرارات، كانت في مجملها تَنُصُّ على حُرِّيَّة التجارة في حوض الكونغو والنيجر، وإلغاء الرقيق، وحياد إقليم الكونغو، ووَضْعِه تحت سيطرة ملك بلجيكا، وقرَّر المؤتمر حُرِّيَّة الملاحة، في حوضه وحوض النيجر، وأصدر المؤتمر قراراته التي وضعت اتجاهات تجزئة القارة دون حسابٍ لحقوق مواطنيه[40]؛ فوقع شرق إفريقيا بعد التقسيم تحت الاستعمار، فكانت ممتلكات فرنسا في الشرق الإفريقي الصومال الفرنسي (جيبوتي) ومدغشقر، واحتلَّت إيطاليا الصومال الجنوبي وإريتريا، واحتلَّت بريطانيا الجزء الشمالي من الصومال المعروف حاليًّا بجمهورية أرض الصومال، وجزيرتَيْ زنجبار وتنجانيقا، وكينيا وأوغندا، كما احتلَّت ألمانيا تنجانيقا (إفريقيا الشرقية الألمانية)، واحتلَّت البرتغال موزمبيق[41]. وبالرغم من خروج المؤتمر بالعديد من القرارات والموادِّ، إلاَّ أن المسائل المُهِمَّة والمتمثلة في القضايا الإقليمية الكبرى قد تمَّت دراستها والاتِّفاق بشأنها في سلسة من الاتِّفاقيات الثنائية امتدَّت عَشْرَ سنوات متواصلة بعد المؤتمر.
وكانت السياسة المتَّبعة مع دُول شرق إفريقيا من جانب المستَعْمِر أن يتعامل معها تَبَعًا لموقعها الجغرافي والاستراتيجي، فكانت الصومال وكينيا وأوغندا من الأهداف الاستراتيجية لبريطانيا لتأمين مصر خصوصًا بعد افتتاح قناة السويس عام 1869م؛ فأوغندا منبع النيل، وهو ما يجعل الوضع مستقرًّا في مصر، واحتلال الصومال الشمالي يؤمِّن للإمبراطورية البريطانية حماية الطريق المؤدِّيَة للهند، أما موزمبيق بالنسبة للبرتغال فهي بمنزلة افتخار لحركات الكشوف الأولى للقارة الإفريقية، التي يرجع الفضل فيها للبرتغاليين أنفسهم، خصوصًا أن موزمبيق قد احتُلَّت مدَّة خمسة قرون كاملة.
وطِبْقًا لمؤتمر برلين لم تُقَسَّم إفريقيا بالتساوي، فلم ترضَ كلٌّ من ألمانيا وإيطاليا عن نصيبيهما، فبدأت ألمانيا في زيادة قدراتها الحربية والعسكرية، بإنشاء الأساطيل الألمانية البحرية في عام 1897م، مسيطرةً بذلك على بحر الشمال، ثم بَدَأ النزاع بين فرنسا وألمانيا على القضية المراكشية[42]، فكان ممَّا لا بُدَّ منه وقوع نزاع جديد لإعادة تقسيم القارة والمستعمرات.
ونشبت الحرب العالمية الأولى، ولتفوُّق الحلفاء العسكري -وخاصَّة من الناحية البحرية- وعَجْزِ ألمانيا على حماية البحار الواقعة تحت سيطرتها، استطاعوا إخراجها من إفريقيا، وكان وراء هذا الصراع معاهدات سرِّيَّة، فمنها معاهدة لندن السرِّيَّة (26 من إبريل 1915م)؛ فقد قدَّمت كلٌّ من بريطانيا وفرنسا وَعْدًا إلى إيطاليا لحصولها على أجزاءٍ من إفريقيا، ووافقت الدولتان على تقسيم ممتلكات ألمانيا، بِنَاء على هذه الاتِّفاقيات السرِّيَّة، ثم هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، فوقعت المستعمرات الألمانية تحت الانتداب، فوُضِعَتْ إفريقيا الشمالية الشرقية التي كانت مستعْمَرَة ألمانية تحت الانتداب البريطاني، وسُحبت تنجانيقا، واستُثْنِيَت رواندا أوروندي فانْتُدِبَتْ لها بلجيكا[43].
كل هذه الانتدابات ذات الأهداف التي كانت تدور في مجملها على تنمية الشعوب، ورفاهيتها، ورفع مستواها السياسي، كانت في حقيقتها مجموعة من الأباطيل؛ إذ هدف الاستعمار في حقيقته استنزاف الشعوب، والقضاء على خيراتها.
[40] عبد العزيز رفاعي: مشاكل إفريقيا في عصر الاستقلال ص56 بتصرف.
[41] المصدر السابق ص57 بتصرف.
[42] الأزمة المراكشية: أرادت ألمانيا أن تَحُولَ بها دون عزم فرنسا على توطيد نفوذها في مراكش، غير أن الحكومة الألمانية لم تنلْ في هذه الأزمة سوى نجاح جزئي؛ لأن مؤتمر الجزيرة الذي انتهى في نيسان 1906م، أعاق عمل فرنسا بجعل القضية المراكشية تحت ضمان دُولي، ولكنه خوَّل فرنسا وكذلك إسبانيا حقَّ تنظيم الضابطة (الشرطة) المراكشية.
[43] عبد العزيز رفاعي: مشاكل إفريقيا في عهد الاستقلال ص55-60 بتصرف.
العالم الإسلامي تحت الاحتلال
وفي هذه الأثناء كان العالم العربي الإسلامي في سُبَاتٍ عميق، وتحت وطأة استغلال بغيض، فقد الْتَفَّت بريطانيا حول الوطن العربي، فاحتلَّت عدن في عام 1839م، كما احتلَّت فرنسا إفريقيا الشمالية (الجزائر)، ثم احتلَّت بريطانيا مصر في عام 1882م، وهو ما جعل شوكة هذه الدُّول في الازدياد والقوة، فوقعت معظم دول إفريقيا، ومنها شرقي إفريقيا تحت وطأة الاحتلال الأوربي.
ونظرًا لهذا الضعف العامِّ الذي أصاب العالم الإسلامي، ففقد هيبته أمام المجتمع الدُّولي، ظلَّ المحتلُّ الغربي جاثمًا على صدور الأفارقة -واتسم الغالبية منهم بالإسلام- مستنزِفًا لثرواتهم، ومضيِّعًا لحقوقهم، إلا أن هناك مجموعة من الدُّول استطاعت التحرُّر والاستقلال، وساعدت بكل ما أُوتِيَت من قوَّة كل الدُّول الإفريقية الأخرى في التحرُّر؛ ففي اجتماع "أكرا" عاصمة "غانا" في إبريل عام 1958م -والذي اشتركت فيه مجموعة الدُّول الإفريقية الثماني[44] عدا جنوب إفريقيا- طالب الأعضاء بضرورة مساعدة الشعوب غير المستقلَّة في نضالها من أجل الاستقلال[45].
ثم إن الدول الأوربية المستعمِرة كانت قد انتهجت أسلوبًا جديدًا في فلسفة الاستعمار ومفهومه، وهو استنزاف خيرات الدول، وتسيير مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية دون وقوعِ خسائرَ في الأموال والأنفس، خاصة بعد قيام الحركات التحررية في إفريقيا (1955م - 1965م) بالجهاد ضدَّ المستعمر.
وإذا كُنَّا فيما مضى نتحدث عن شرق إفريقيا بصفة عامَّة، فالحال هنا مختلف؛ نظرًا لما أصاب هذا الشرق من تفكُّك بعد الاحتلال، وتفكيكُ التكتلاتِ الكبيرة هي وسيلة استعمارية لا تتغيَّر، يَتَّبعها المحتلُّون لتقطيع أوصال الضحيَّة، حتى يَسْهُلَ السيطرة عليها، ومن ثَمَّ نتحدَّث عن هذه الدُّولِ كلٍّ على حِدَة.
[44] المقصود بالدول الإفريقية الثماني: غانا وليبريا ومصر وتونس وليبيا والسودان ومراكش وجنوب إفريقيا.
[45] عبد الله عبد الرازق إبراهيم: موسوعة التاريخ والسياسة في إفريقيا ص10 بتصرف.
الاستعمار في الصومال
ففي عام 1899م ظهر في الصومال محمد بن عبد الله حسن الشهير بالمُلاَّ، وقد نادى بالجهاد المقدَّس، واستطاع أن يستقلَّ بالبلاد مدَّة عشرين عامًا، مما ضايق البريطانيين، وأضرَّهم أشدَّ الضرر؛ واضطرهم إلى إخلاء الأقاليم الداخلية من الصومال في المدَّة ما بين عامَيْ 1900م إلى 1904م، وظلَّ الملا محمد بن عبد الله شوكةً قوية في حَلْقِ الإنجليز حتى عام 1920م، ولقد أوقع الملا وأتباعه في الإنجليز مجموعة من الهزائم المتتالية بلغت ما يقرب من أربعين موقعة.
وبعد موت الشيخ محمد بن عبد الله استمرَّ الجهاد في الصومال ما يقرب من أربعين عامًا، ففي عام 1943م بَرَزَ في مقديشو حزب سياسي باسم "رابطة وَحدة الشباب" نادى بتحرُّر الصومال، ووَحدة أقاليمه الخمسة، واشترط البَرنامج الرسمي للحزب أن يكون الصومال جزءًا من الوطن العربي والإسلامي الكبير، وفي المدَّة ما بين 1948م إلى 1955م سلَّمت بريطانيا إلى الحبشة غدرًا أقاليم: "أوجادين، وهود، والمنطقة المحجوزة"، وقُسِّمت الصومال بين خمس دُول هي إنجلترا، وفرنسا، وإيطاليا، والحبشة، وكينيا، وبعد نضال طويل واستنزاف في قوة المستعْمِر استقلَّ الصومال البريطاني، وتلاه الصومال الإيطالي في عام 1960م، ثم اتحد الاثنان في جمهورية واحدة عام 1961م[46].
احتلال فرنسا لجيبوتي
أما جيبوتي[47] التي كانت جزءًا من الصومال فقد احْتَلَّتها فرنسا عام 1882م، وهو نفس العام الذي احْتَلَّت فيه بريطانيا مصر، وكانت جيبوتي جزءًا من الصومال، وبعد مجموعة من المشاحنات بين فرنسا وإنجلترا على مناطق النفوذ على إقليم جيبوتي، اتَّفقت الدولتان على أن خطَّ السكك الحديدية الذي يمرُّ من جنوب جيبوتي إلى حدود الصومال وإثيوبيا يُعتَبَر حدًّا فاصلاً بين ما تمتلكه فرنسا في شماله، وما يقع تحت سيطرة إنجلترا في جنوبه، لكنَّ السكان في جيبوتي سعَوْا أكثر من مرَّة إلى الاستقلال والانفصال عن فرنسا.
وقد استمرَّ الشعب في نضاله بعد الحرب العالمية الثانية، لكن فرنسا اعْتَبَرَت جيبوتي جزءًا من الاتحاد الفرنسي الذي أنشئ بعد مؤتمر برازفيل في عام 1944م، ثم إن فرنسا سمحت في عام 1950م بإنشاء مجلس تشريعيٍّ مؤلَّف من خمسة وعشرين عضوًا، لكنَّ السلطة الفعلية كانت في يد الحاكم الفرنسي، وظهرت في الإقليم بعض الأحزاب السياسية، منها حزب الاتحاد الجمهوري الذي يدعو للوَحدة مع الصومال، ومع استمرار أعمال النضال، والمحاولات المتتالية في الاستقلال عن فرنسا، وافقت فرنسا على استقلال جيبوتي في عام 1977م[48].
[46] جمال عبد الهادي محمد، علي لبن: المجتمع الإسلامي المعاصر (ب) إفريقيا ص100، 101 بتصرف.
[47] كانت تعرف باسم "عفار وعيسى".
[48] عبد الله عبد الرازق إبراهيم: موسوعة التاريخ والسياسة في إفريقيا ص275، 276 بتصرف.
المسلمون في إثيوبيا
أما في إثيوبيا -الحبشة- فقد استطاعت القوى الاستعماريَّة أن تُجْبِرَ المسلمين -الذين يمثِّلون ثلثَيْ سكان الحبشة تقريبًا- أن يُحْكَمُوا عن طريق الأمهرة النصارى، وأدَّى تفوُّق "منليك" إمبراطور الحبشة، وانتصارُه واستيلاؤُه على مدينة "هَرَر" عام 1887م إلى سقوط الحكم الإسلامي الذي استمرَّ أربعمائة سنة دون انقطاع، رغم الثورات المتكرِّرة من شعب الأورومو وغيره من الشعوب الإسلامية الأخرى في بلاد الحبشة.
وقد قام السلطان "محمد علي" -وهو من خيرة سلاطين الأورومو- بمقاومة حكم "منليك"، ولكنَّه هُزم، فاختار التَّنَصُّرَ الظاهريَّ على القتل، وقد أَنْجَبَ "ليج ياسو" من ابنة "منليك"، ولما تُوُفِّيَ "منليك" في عام 1913م انتقل الحكم لحفيده "ليج ياسو"، الذي ما لَبِثَ أن أعلن إسلامه، وأبدل العَلَمَ القديم الذي يحمل الصليب بالعَلَمِ الجديد الذي يحمل الهلال، والمنقوش عليه: "لا إله إلا الله محمد رسول الله".
لكنْ لم تَرْضَ كُلٌّ من إنجلترا، وفرنسا، وإيطاليا، وروسيا، فعَمِلوا على إقصائه من الحكم، وتعيين "هيلاسيلاسي" الذي قام بوضع "ليج ياسو" في السجن مدَّة عشرين عامًا، إلى أن مات هناك في عام 1936م، واستمرَّ حكم "هيلاسيلاسي" مدَّة خمسين سنة، مما أضفى على الحدود التي أمدَّها "منليك" صِفَةَ الأمرِ الواقع والمشروعيَّة الدُّولية، وعلى الرغم من هذه الحركات التحرُّريَّة والاستقلاليَّة المتتالية من شعب الأورومو المسلم، إلا أنهم ما زالوا في درجة من الضعف لا تُمَكِّنُهم من الاستقلال، ثم إنهم ما زالوا مطارَدِين من السلطات الإثيوبية. أما جبهة تحرير الصومال الغربي "أوجادين" التي كانت بلادهم "الصومال الغربي" واقعة منذ الاستقلال عام 1954م تحت سيطرة الصومال؛ فقد عُقِدَ اتِّفاق سِرِّيٌّ بين بريطانيا والحبشة في عهد "هيلاسيلاسي"، خُوِّل من خلاله "هيلاسيلاسي" من ضمِّ الإقليم المُسْلِم إلى أراضي الحبشة، ورغم التاريخ الجهادي الطويل منذ الاستقلال وحتى الآن، فإن الحكومة الإثيوبيَّة لا تقدِّم أدنى الاهتمامات لهذا الإقليم الفقير[49].
والغريب أنه رغم كون المسلمين في إثيوبيا يمثِّلون ثلثي السكان تقريبًا، إلا أن الدِّينَ الرسمي للدولة هو المسيحية، وهو ما يؤيده إحصاء عام 1993م الذي أشار إلى أن عدد المسلمين في الحبشة بلغ 27 مليونًا من مجموع السكان البالغ عددهم 45 مليونًا، وقد حرص الرئيس "زين
اتصل العرب بإفريقيا بغرض التجارة، فلمَّا اشتدَّ أذى المشركين كانت الهجرة إلى النجاشي في الحبشة، فكان ذلك أولى خطوات الإسلام في إفريقيا، ثم انتشر الإسلام ودخل شمال إفريقيا، وبعد انهيار الخلافة الأُموية، هرب بعض الأمويون إلى الأندلس وبعضهم إلى إريتريا فنشروا الإسلام، وكذلك هاجر بعض العرب من دولة القرامطة إلى الصومال فأسسوا مدينة مقديشيو، وكوَّنوا فيها مجلس المدينة، ثم تحولت إلى سلطنة فيما بعد، فأصبح شرق إفريقيا موطنًا للإسلام والثقافة الإسلامية.
وعند سقوط الأندلس بدأت حملات اكتشاف أوربا للقارة، فاحتلوا جزيرة زنجبار، فوقع العالم الإسلامي تحت الاحتلال من مختلف الدول الأوربية، وبدأ النضال الإسلامي للاستقلال، فظهر في الصومال محمد بن عبد الله حسن الشهير بالمُلاَّ، فاستطاع أن يستقلَّ بالبلاد مدَّة عشرين عامًا، وبَرَزَ في مقديشو حزب "رابطة وَحدة الشباب"، أمَّا جيبوتي فكانت جزءًا من الصومال واحتلتها فرنسا. وفي إثيوبيا (الحبشة) استمرَّ الحكم الإسلامي أربعمائة سنة، ثم جعل الاستعمار السلطة في يد النصارى، وقد حرصت الحكومات على إبقاء الطابع المسيحي للحبشة.
أما إريتريا فرغم الأغلبية المسلِمَة إلا أنها وقعت تحت الاحتلال الحبشي، وانسحبت مصر من إريتريا بسبب وقوعها تحت الاحتلال البريطاني، واحتلتها إيطاليا، ثم ضُمَّت إريتريا للحبشة، وبدأ اضطهاد المسلمين، وانتشرت الهيئات التنصيرية. وأما تنزانيا فسيطر عليها العُمَانيون، ثم احتلتها ألمانيا، وقد وقَّع السلطان العُمَانِيُّ تنازلاً للشركة الألمانية عن أملاكه في الشريط الساحلي، ثم استقلَّت زنجبار وضُمَّت إلى تنجانيقا؛ لتكون فيما بعدُ جمهورية تنزانيا عام 1964م، وعانى المسلمون من الاضطهاد حتى إن الفتياتِ المسلماتِ أُجبرن على الزواج من النصارى.
هذه الدُّول يغلب الإسلام بين أهلها؛ إلا أنها تتعرَّض لمجموعة من المعوِّقات؛ مثل: وجود الحملات التنصيرية بين أهلها خاصَّة في إريتريا وإثيوبيا، وكذلك موزمبيق، وانتشار الفقر والصراعات الداخلية مثل الصومال، أو المعوقات الاقتصادية وعدم استغلال الموارد الداخلية مثل جزر القمر.
وخضعت كينيا للاستعمار البريطاني الذي أراد التخلص من اللغة العربية، وذلك بكتابتها باللغة اللاتينية؛ لصرف المسلمين عن قرآنهم، وجاء الشيخ الأمين علي المازروي الذي تأثَّر بحركات الإصلاح التي ظهرت في العالم الإسلامي، وقام بإصدار صحف ومدارس وإنشاء مشروعات إسلامية متعدِّدة. أما "أوغندا" فكانت تَدِينُ بالإسلام دِينًا رسميًّا، وكان ملكها يَؤُمُّ الناس في الصلاة، فأرسل الخديوي إسماعيل ضباطًا لاكتشاف منابع النيل، وقام بضمِّ "أوغندا" إلى مصر وسمَّاها مديرية خطِّ الاستواء، وكان لهذا أثر طيِّب في تثبيت العقيدة الإسلامية بين الأهالي، فجاء الاستعمار البريطاني، وأعلنت بريطانيا عدم دخول أي مسلم إلى أوغندا إلا بإذن مُسْبَق، ثم استقلَّتْ ثم وقع خلاف بين تنزانيا وأوغندا.
أما مدغشقر فقد انتشر الإسلام فيها، واستعمرتها فرنسا، وشجَّعت البعثات التنصيرية، وفرضت العزلة على المسلمين، فقامت عدَّة ثورات ضدَّ الفرنسيين، وعانى المسلمون مشكلة في التعليم عامَّة وتعليم أمور دينهم خاصة.
العرب وإفريقيا.. علاقات قديمة
للإسلامِ في كلِّ مكانٍ وَصَلَ إليه قِصَّةٌ؛ تحكى جهود الأجداد في نشر الإسلام في ربوع الأرض، وبين كل البشر، ليَعُمَّ الخيرُ، وينتشر العدلُ، وتُشرق الأرض بنور ربها.
ومن بين البقاع التي نَعِمت بنور الإسلام في وقت مبكر، تلك الأرض الممتدة على الساحل الشرقي للقارة الإفريقية والأراضي القريبة منها كذلك، والتي تضم اليوم مجموعة من الدول هي إريتريا وإثيوبيا والصومال وكينيا وتنزانيا وأوغندا وجيبوتي وموزمبيق ومدغشقر وملاوي وزامبيا وزمبابوي وبوروندي ورواندا وجزر القمر وموريشيوس وسيشيل... وقد كان يُطلق على الأراضي الساحلية منها[1] أرض الزنج[2].
غير أننا قبل أن نخوض في العَلاقات الوثيقة بين الإسلام وشرق القارة السمراء، نغوص معًا في أعماق التاريخ لنبدأ القصة من أوَّلها، ولنكشف الستار عن الأحداث التي مهَّدت لهذه العَلاقات الوطيدة التي جاء الإسلام ليُثَبِّتها ويُوطِّدها، لا ليبتدئها أو ينشئها.
كان السبئيون (عرب جنوب شبه الجزيرة العربية) أول الشعوب العربية التي أتت إلى الساحل الشرقي لإفريقيا بغرض التجارة لا الغزو، وعلى الرغم من أنهم وفدوا في أعداد قليلة إلا أنهم داوموا في تجارتهم، واختلطوا بأهل الساحل، وتزوَّجوا منهم، وأقاموا محطات تجارية، وفي منتصف الألف سنة التي سبقت ميلاد المسيح u بدأ الطابع العربي يَظْهَر على طول الساحل، ولم يَفْقِد هذا الساحل شخصيته المميَّزة، إذ كان يُدْعَم بشكل دائم بالوافدين من جزيرة العرب والخليج العربي[3].
ويذكر مؤرِّخو الإغريق القدماء عن "الزنج" الذين كانوا يعيشون في سواحل شرق إفريقيا، أنهم شيَّدوا مدنًا ساحلية كانت على عَلاقات تِجارية راسخة مع شبه الجزيرة العربية والهند[4].
ومن المرجَّح أن يكون عرب جزيرة العرب -خاصَّة عرب الجنوب- هم أقدم الشعوب العربية اتِّصالا بالسواحل الشرقية الإفريقية، بحكم الجوار الجغرافي، وساعدهم على قيام هذه الصلات نظام الرياح الموسمية، والتي كانت تمكِّن السفن الشراعية الصغيرة من القيام برحلتين على الأقل في العام؛ ففي الخريف تدفعها الرياح الموسمية الجنوبية الغربية من خليج عُمَان وسواحل الجزيرة العربية نحو الساحل الإفريقي، وفي فصل الربيع تدفعها في اتجاه الشمال الشرقي، حيث تمكِّنها من العودة إلى قواعدها، وفي خلال دورة الرياح يتمُّ التعامل التِّجاري[5].
كانت تلك إذن هي بدء العَلاقات بين سكان شبه الجزيرة العربية وبين شرق القارة الإفريقية، وقد مهَّدَ هذا الأمر لوصول الإسلام ثُمَّ نَشْرِهِ بعد ذلك في تلك الأماكن.
هجرة المسلمين للحبشة
وقد كانت التجارة بين عرب شبه الجزيرة العربية وشعوب شرق إفريقيا ما زالت مستمرَّة حين جاء الإسلام، فلمَّا اشتدَّ أذى مشركي مكة للمسلمين أذن رسول الله r لبعض أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، حيث يوجد بها النجاشي، ولقد وصفه الرسول r بأنه لا يُظلم عنده أحد، ومن ثَمَّ كان اختيار الحبشة كمكان لهجرة المسلمين ابتداءً، وكان الاستقبال الحافل والحفاوة البالغة التي تمَّ بها استقبال المسلمين كَفِيلَة باستمرارهم، وتَكَرَّرت هجرتهم مرَّة أخرى بِفَوْج أكبر من الفوج الأول، فبلغ عددهم ثلاثة وثمانين رجلاً وتسعَ عشرةَ امرأة[6]، وقد حاولت قريش الإيقاع بين المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة وبين النجاشي ومَن معه من النصارى، ولكن قوَّة الحُجَّة عند المسلمين وحُسْن تصرفهم حالَ دون هذه الوقيعة، وازداد تمسُّك النجاشي بهم وحمايته لهم[7].
وقد كان للعَلاقات الودِّيَّة بين الرسول r والنجاشي، والمعاملة الطيبة التي لقيَها المسلمون المهاجرون إلى الحبشة أكبر الأثر في توثيق العَلاقات بين نصارى الحبشة وبين الإسلام، إلاَّ أن هذه الهجرات الإسلامية الأولية في عهد رسول الله r لم تترك أثرًا في حياة البلاد، وإن كانت قد تركت أثرًا في نفوس الأحباش، وأطلعتهم على الينبوع الرُّوحي الجديد المتفجِّر بالقوَّة والحياة، ووطَّدت الصلات بين الدولة الإسلامية في عهد الرسول r وبين الأحباش، وحين بلغ الرسولَ r وفاةُ النجاشي صلَّى عليه هو وأصحابه[8]؛ فعن أبي هريرة t قال: نعى لنا رسول الله r النجاشي صاحب الحبشة اليومَ الذي مات فيه فقال: "اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ". وعنه أيضًا t قال: إِنَّ النَّبِيَّ r صَفَّ بهم بِالْمُصَلَّى فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا[9]. وعن عروة بن الزبير t، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما مات النجاشي كان يُتَحَدَّث أنه لا يزال يُرَى على قبره نور[10].
وفي السنة التاسعة من الهجرة، أرسل رسول الله r الصحابي الجليل علقمة بن مُجَزِّز t على سريَّة في اتجاه الحبشة؛ لأن بعض مراكبهم كانت تقترب من مكة بحرًا، ولكنه لم يَلْقَ كيدًا كما تَذْكُر الرواية[11].
ومن هنا كانت منطقة شرق إفريقيا أسبق بقعة في العالم القديم في استقبال الدعوة الإسلامية الخالدة[12].
فتح الحبشة
لم تكن الحبشة ضمن الممالك التي وجَّه المسلمون إليها حملاتهم في ذلك العهد الأول الذي شهد الفتوحات الإسلامية العظيمة لنشر دين الإسلام، ويبدو أن ذلك راجع إلى عدَّة عواملَ، منها تركيز المسلمين على كسر شوكة الإمبراطوريتين المجاورتين لبلاد العرب، واللَّتين يُخشى منهما على الدولة الإسلامية الناشئة وهما إمبراطورية الفرس والإمبراطورية الرومانية الشرقية، وكذلك اعتبار المسلمين أن مصر أكثر أهمية من الحبشة لمركزها المهم وسبقها في ميدان الحضارة والعمران. ومن أهمِّ الأسباب أيضًا قُرْب عهد المسلمين بالعَلاقات الطيبة التي كان للنجاشي فيها فضلٌ مشكور، حتى يُروى أن النبي r نَصَحَ بِتَرْكِ الأَحْبَاشِ وشأنهم طالما أنهم لم يبدءوا بالعدوان، ففي الحديث الشريف: "اتْرُكُوا الْحَبَشَةَ مَا تَرَكُوكُمْ"[13].
ولكن بعد فترة من الزمن أخذ بعض القراصنة الأحباش يهدِّدون تجارة العرب في البحر الأحمر، مما اضطرَّ الخليفة عمر بن الخطاب t إلى إيفاد حملة بحرية صغيرة لتأديبهم، ولكنها لم تُكَلَّل بالنجاح.
وعاود القرصان نشاطهم مرَّة أخرى في عصر الخلافة الأموية، حيث اتخذوا من خرائب ميناء "عدوليس"[14] على جدة مأوى لهم، ودمروا السفن الراسية فيه، بل وهدَّدوا الأماكن المقدسة في مكة والمدينة، فاضطرَّ المسلمون عام 83هـ إلى اتخاذ خطوة حاسمة لوضع حدٍّ لتلك العمليات، بأن جرد عبد الملك بن مروان حملة بحرية لاتخاذ مركز حربي على الشاطئ الغربي، وتمَّ الاستيلاء على مجموع جزر "دهلك"[15] المجاورة لمدينة "مصوع"[16]، وكان أَخْذُ المسلمين لهذا المركز الممتاز بَدْءَ استيلائهم على باقي المراكز البحرية على الشاطئ الإفريقي، وعلى الانتشار التدريجي للإسلام في شرق إفريقية[17].
السيطرة على دهلك
كانت السيطرة العربية على جزر "دهلك" سببًا في تطوُّرات عديدة مُهِمَّة في تاريخ المنطقة، من أهمها أنها أعطت فرصة لانتشار الإسلام من قاعدة ثابتة، فضلاً عن ارتباط حركة التجارة في المنطقة بالواقع الجديد الذي أحلَّ النظام والعدل محلَّ الفوضى والقرصنة[18].
وتَنْسِب الروايات تأسيس الإمارات العربية الأُولَى في شرقي إفريقيا لعهد عبد الملك بن مروان ورجاله الشاميين، وما زال اسم عبد الملك بن مروان يُذْكَر في تلك الجهات، لدرجة أن السكان قد حرَّفوا اسمه، فينطقون (عبد المالك) (ابن مرواني)، ومرُّد ذلك ضعف اللغة العربية وظهور اللغة السواحلية.
وفي أواخر عهد الدولة الأموية كانت هجرة الزُّيُود من اليمن عقب مقتل زيد بن علي زين العابدين عام (122هـ/740م)؛ فِرَارًا من اضطهاد بني أمية لهم، وعُرِف هؤلاء بالزيدية، واستقرَّت هذه الجماعات -كما أشارت المصادر- في ساحل (بنادر) الصومالي، وحكموا فيه ما يقرب من مائَتَيْ سنة، ونشروا الإسلام بين قبائل (بنادر)، كما أصلحوا الأراضي، وزرعوا بعض النباتات، بل توغَّل الزيدية إلى داخل الأراضي الصومالية ونشروا الإسلام بين قبائل (أنهار جوبا) و(شبيلي) من بينها قبائل (الجالا) التي اعتنقت الإسلام بحماس كبير، بدليل أن كثيرًا من الصوماليين من أفراد هذه القبائل قد أصبحوا فقهاء ووعَّاظًا، واضطلعوا بنشر الإسلام بين القبائل الوثنية[19].
[1] أي الممتدة بين الصومال وموزمبيق.
[2] جوان جوزيف: الإسلام في ممالك وإمبراطوريات إفريقيا السوداء، ترجمة مختار السويفي، ص131.
[3] محمود محمد الحويري: ساحل شرق إفريقية من فجر الإسلام حتى الغزو البرتغالي ص16.
[4] جوان جوزيف: الإسلام في ممالك وإمبراطوريات إفريقيا السوداء، ترجمة مختار السويفي، ص131.
[5] عبد الفتاح مقلد الغنيمي: الإسلام والمسلمون في شرق إفريقيا ص22، 23.
[6] ابن قيم الجوزية: زاد المعاد 3/20.
[7] انظر في هذه الأحداث: ابن هشام: السيرة النبوية 1/330 وما بعدها.
[8] عبد الفتاح مقلد الغنيمي: الإسلام والمسلمون في شرق إفريقيا ص44.
[9] البخاري: كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد (1263).
[10] رواه أبو داود (2523)، وضعفه الألباني، انظر ضعيف سنن أبي داود (542). وانظر: ابن هشام: السيرة النبوية 1/340.
[11] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 8/59، ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/163، ابن قيم الجوزية: زاد المعاد 3/ 515.
[12] عبد الفتاح مقلد الغنيمي: الإسلام والمسلمون في شرق إفريقيا ص42.
[13] رواه أبو داود (4302)، وأحمد (23203) وقال شعيب الأرناءوط: صحيح لغيره وهذا إسناد حسن في الشواهد. والحاكم في المستدرك (8396)، وقال الذهبي في التلخيص: صحيح. وصححه الألباني، انظر السلسلة الصحيحة (772).
[14] يقع على بعد 40 كم جنوب ميناء مصوع الحالي.
[15] جزر دهلك: التابعة لدولة إريتريا حاليًا، والواقعة على الساحل الجنوبي الغربي للبحر الأحمر وهي على بعد 60 كم من مدينة مصوع.
[16] إحدى أشهر المدن الساحلية الأريترية اليوم، وبها أحد أكبر ميناءين في إريتريا.
[17] فتحي غيث: الإسلام والحبشة عبر التاريخ ص59، 60.
[18] محمد عثمان علي خير: عروبة إريترية (حقائق ووثائق) ص42.
[19] غيثان بن علي بن جريس: مجلة العرب، العدد (3)، السنة 30، ص185-202.
انتشار الإسلام في غرب إفريقيا
كان من أهمِّ أسباب انتشار الإسلام عَبْر ربوع إفريقيا أيضًا بساطة تعاليمه، وسهولة فَهْمه، ويُسْرُ الدعوة إليه، فكلُّ مسلم يُعْتَبَر داعية، فلا توجد تعقيدات كهنوتية كما في المسيحية، وما يكتنفها من غموض، مما يجعلها صعبة الفَهم بالنسبة للإفريقي، وعلى العكس يَسَّرَت تعاليمُ الإسلام وسُمُوِّها بالبَشَرِ ومساواتها بين الناس سهلت مهمَّة الدعوة للإسلام، وأيضًا مما ساعد على انتشار الإسلام عدالته ومساواته بين الناس، وبغضه للتفرقة العنصرية، وهي عُقْدَة الأفارقة، حيث مارسها بعضهم، ويمارسون جميع ألوانها في جنوب إفريقيا تحت ظلال المسيحية، مما يجعل الأخوة في كنف التنصير ليست إلا أكذوبة، لَمَسَها الإفريقي واقتنع بها[20].
وبعد انهيار الخلافة الأُموية، انقسم الهاربون من الخلافة العباسية إلى قسمين: أحدهما اتجه إلى الأندلس، وأنشأ الدولة الإسلامية بالأندلس، والآخر اتجه إلى إريتريا؛ لبُعدها عن مركز الخلافة العباسية في بغداد، وكونها خصبة للتجارة بالنسبة للأمويين الهاربين من الحكم العباسي، وللدعوة بالنسبة لآل البيت (الأشراف).
وقد تزامن هذا مع صراعات عنيفة داخل الممالك الحبشية، ممَّا عزلها تمامًا عن التأثير في الأحداث، بسبب الصراعات التي نشبت بين الأسرة السليمانية وأسرة زاقي، وقد وطَّد الإسلام في هذه الفترة أقدامه في التُّرْبة الإريترية مِن بَدْء مجيئه، فأسلم "آل الجبرتا"، وإليهم ينسب المؤرخ المصري الشهير عبد الرحمن الجبرتي، ولهم رواق خاصٌّ بهم بالجامع الأزهر الشريف، ما يزال موجودًا حتى الآن، ويُسمَّى "رواق الجبرتا"، وكانوا من أوائل الناس إسلامًا في إريتريا، وقد ذهب منهم وَفْدٌ ضِمْنَ وفد النجاشي للرسول r، وكانوا يقطنون هضبة "التجراي"[21].
بناء مقديشو
تأسَّست مدينة مقديشو في عهد الخلافة العباسية ، ولهذا التأسيس قصة، فحينما وصلت أكبر الهجرات العربية والإسلامية إلى ساحل الصومال، المعروف بساحل (بنادر)، وهي هجرة الإخوة السبعة، فقد هاجرت هذه الجماعة العربية في مَشَارِف القرن العاشر في حوالي عام (301هـ/ 913م) من (الأحساء) عاصمة دولة القرامطة، والإخوة السبعة من قبيلة (الحارث) العربية، جاءوا في ثلاث سفن محمَّلة بالرجال والعتاد الحربي، وقد نما إلى علم هذه الجماعة العربية أخبار الجماعات العربية التي سبقتهم إلى ذلك الساحل، وربما سمعوا عنها من التجار، أو من جنود سعيد الجنَّابي، وقد كان في صفوفهم جندٌ من الزنج والأَرِقَّاء الذين جاءوا إلى الجزيرة العربية والعراق في فترة من الفترات؛ لذلك قرَّرت هذه الجماعات الإسلامية أن تحذُوَ حَذْوَ الهجرات التي سبقتها، يراودهم الأمل العريض في تكوين وطن جديد، وقد تحقق لهم ما أرادوا بفضل جهودهم.
استولى الإخوة السبعة على كل سواحل (بنادر) بعد أن قاموا بتأسيس مدينة (مقديشو)، والتي جعلوها عاصمة لدولتهم الجديدة، فامتدَّ نفوذهم حتى جنوبي (ممبسة)، وربما وصلوا إلى جزيرة (مدغشقر)، وقد وصف المسعوديُّ هذه الجزيرة، وذكر أن فيها قومًا من المسلمين.
ولم تمضِ فترة طويلة على استقرار هذه الجماعات المسْلِمَة، حتى أصبح كل الساحل سُنِّيًّا على المذهب الشافعي، وذلك بعد أن اصطدم الإخوة السبعة بالزيدية الشيعة، الذين اضطروا للانسحاب إلى الداخل، ولا يزال المذهب الشافعي هو السائد في بلاد شرقي إفريقيا، وقد اكتفى هؤلاء المسلمون على بسط نفوذهم في المنطقة الساحلية فقط؛ إذْ إنَّ الداخل لم يكن معروفًا لديهم، إما لأنهم يجهلونه، أو لصعوبة التوغُّل، فسيطروا على الساحل ريثما يتمُّ لهم كشف مجاهل إفريقيا المختلفة، وكان من نتيجة هذه الهجرة الأخيرة أن بسطت (مقديشو) نفوذها، وساعدت العرب المسلمين على إنشاء مواطن استقرار على طول الساحل الممتدِّ من (مقديشو) في الشمال إلى مدينة (سوفالا) في الجنوب.
شكل الحكومة
وبعد أن تغلَّب الإخوة السبعة على الصعاب التي واجهتهم في أوَّل أمرهم، بدءوا في وضع الأُسُس والتشريعات المختلفة التي تَكْفُل لهم الاستقرار والحياة الكريمة، فتكوَّن مجلس من كبار المسلمين، وأعضاؤه اثنا عشر شخصًا، يرأسهم شيخ لا يحمل لقب سلطان أو مَلِكٍ، ويُسَمَّى هذا المجلس باسم (مجلس المدينة)، وكان هذا النظام أفضل نظام طبّقه المسلمون في ساحل (بنادر) في العصور الوسطى، ويتمتَّع هذا المجلس بِكُلِّ السلطات، وله حقُّ النظر في القضايا المدنية والجنائية وفضِّ المنازعات، وكان بجانب هذا المجلس مجالسُ فرعية في كل حيٍّ من أحياء المدينة، وهي في شكل طائفة تَخْضَع لشيخها الذي يتولَّى أمرها، ويقوم بإكرام الغرباء، وقضاء حاجاتهم.
كان اختصاص هذا المجلس هو حفظ الأمن، وتطبيق العدالة بين الجماعات، ووضع حَدٍّ لهجمات بعض القبائل الرعوية الصومالية على التجار من العرب والفرس، وبالتالي لمواجهة غزاة آخرين كانوا يأتون من البحر، وتمَّ هذا الاتحاد بعد أن أصبحت (مقديشو) عاصمة لساحل بنادر، والذي ضمَّ هذه المشيخة وإماراتها التابعة لها، مثل: مركة، وبراوة التي سيجيء تفصيلهما، هذا إضافة إلى الأراضي المحيطة بهم، وكان يطلق على جميع هذه الأراضي (مقاديش)، وعُرِف أحيانًا سكان هذه الجهات باسم سكان بنادر، وبضائعهم باسم بضائع بنادر.
لقد استمرَّ مجلس هذه المشيخة والممثَّل في سلطة الشورى بين المسلمين والفرس والصوماليين نحو أكثر من مائتي عام على ذلك النحو، حتى انْتُخِبَ أبو بكر فخر الدين عام 1100م حاكمًا على جميع أراضي هذه البلاد، وهو من سلالة الإخوة السبعة بتعضيد من قبيلة بني قحطان العربية التي أصبح لها النفوذ والسيادة.
وفي عهد أبي بكر فخر الدين احتفظت قبائل قحطان ومكري بنفوذها ومكانتها الدينية الممتازة؛ لأن قاضي الوَحدة قبل قيام السلطنة التي أسَّسها أبو بكر فخر الدين كان من بين أبناء هاتين القبيلتين، وبفضل قبائل قحطان ومكري استطاع أبو بكر فخر الدين أن يُقِيم سلطنة وراثية في (مقديشو)، كما أقرَّ السلطان أبو بكر قبائل مكري على امتيازاتها، وقد استمرَّ حُكْم أبي بكر فخر الدين سبعةَ عشَرَ عامًا حتى تُوُفِّيَ عام 1117م[22].
اضمحلال سلطنة (مقديشو)
أما في عصر المماليك فقد كان للأحباش اتِّصال دائم مع ملوك أوربا للعمل معًا ضدَّ المسلمين، وقد ظهر هذا خلال أوقات متباعدة، فعند الغزو الصليبي قدَّم الأحباش المساعدات، وأصبح لهم دَيْر خاصٌّ في بيت المقدس، وحرصت الحبشة على مساعدة مَلِكِ قبرص النصراني، وتحريضه على غزو مصر، وكان نتيجة لذلك غزو الإسكندرية عام 767هـ، وأقدمت الحبشة على القيام ببعض الأعمال التخريبية، إلا أن تحرُّك الجيوش المملوكية قد حال دون استمرار أعمال الأحباش.
وعندما فتح المماليك في مصر "جزيرةَ قبرص" عام 830هـ/ 1427م اتَّصل الأحباش بملوك أوربا للعمل ضدَّ المماليك، وقد تجاوب مع ذلك ملك فرنسا وملك أرغون، وهدَّد مَلِكُ الحبشة المماليكَ بالقيام بغزو بلاد العرب والأماكن المقدسة، وتحويل مجرى نهر النيل[23].
وفي مطلع القرن العاشر الهجري حملت راية الجهاد في شرق الحبشة إمارة "عدل"، ووصل نفوذها إلى حافَّة الهضبة الحبشية، في الوقت الذي كان العثمانيون يدخلون من الشمال لبلاد العرب؛ ليُوَحِّدوا المسلمين، ويقفوا في وجه البرتغاليين وأطماعهم في المنطقة، إلا أن حُكَّام إمارة "عدل" قد اضطروا فيما بعدُ إلى مسالمة الأحباش بعد أن هُزِمُوا أمامهم.
ثم حملت إمارة "هرر"[24] راية الجهاد، وأسلمت الشعوب البدوية مثل "الدناقل" وغيرها، وشجع الهرريُّون وصول العثمانيين إلى المنطقة، ووقوفهم في وجه الحلف البرتغالي الحبشي، إذ دَعَمُوا سلطان "هرر" أحمد بن إبراهيم الملَّقب بالقرين، وأمدُّوه بالأسلحة، فاستمرَّت غزواتهم في الحبشة خمسةَ عشرَ عامًا، وكانت النتيجة أن دخل سلطان "هرر" أجزاءً من هضبة الحبشة، وعاد إلى الإسلام عدد من الذين سبق لهم أن تنصّروا تحت ضغط الأحباش، كما بدأت قبائل "الجالا" الوثنية الدخول في الإسلام، كما أن هذه القبائل قد استغلَّت الخلاف الذي حدث بين الأحباش والبرتغاليين فشقَّت طريقها إلى الهضبة من الجنوب.
وازداد عدد المسلمين في القرن الحادي عشر الهجري، ودخل التُّجار الكانميُّون[25] إلى بلاد الحبشة، فأسلم على أيديهم كثيرون، واتَّجه المظلومون من الأحباش إلى عدالة الإسلام، وكان المسلمون من الأحباش ذوي مكانة اجتماعية وثقافية وخُلُقِيَّة، معرُوفِينَ بالجدِّ في العمل، والأمانة في المعاملة، وقد عَرَف لهم هذا الأحباشُ الذين كانوا على غير دينهم، إلاَّ أن بعض المتعصِّبين من النصارى كثيرًا ما كانوا يُسِيئُون إلى المسلمين، ويُصِرُّون على إقصائهم عن الوظائف الرسمية، ومع هذا فقد وَجَد الإسلامُ طريقَه إلى قلوب كثير من الزعماء[26].
[20] نوال عبد العزيز راضي: الإسلام والمسلمون في وسط إفريقيا ص16.
[21] محمد عثمان علي خير: عروبة إريترية (حقائق ووثائق) ص42، 43.
[22] غيثان بن علي بن جريس: مجلة العرب، العدد 3، السنة 30، ص185-202.
[23] إسماعيل أحمد ياغي، محمود شاكر: العالم الإسلامي الحديث والمعاصر 2/252.
[24] تقع مدينة هرر في الجنوب الشرقي من إثيوبيا.
[25] مملكة كانم: هي مملكة قامت شمال شرق بحيرة تشاد، وقامت بدور فعّال في نشر الإسلام والثقافة العربية في تلك الربوع الواسعة.
[26] إسماعيل أحمد ياغي، محمود شاكر: العالم الإسلامي الحديث والمعاصر 2/252، 253.
انتشار الثقافة العربية الإسلامية
انتشرت الثقافة العربية الإسلامية في منطقة الساحل وبين السكان على اختلاف عناصرهم بالعلوم الدينية واللغة العربية، فمِن "كلوة"[27] سافر طلاب العلم إلى شبه الجزيرة العربية ليَنْهَلُوا من علوم المعرفة، وكان مِن بينهم الأمراء، فقد تَنَقَّل السلطان أبو المواهب (1308- 1334) قبل ارتقائه عرش السلطنة في "كلوة" بين عدن ومكة لطلب العلم، وكان قد وصل إلى مكة وهو لم يزل في الرابعة عشرة من عمره، وممَّا يُؤَكِّد شدَّة حاجة سكان الساحل إلى تحصيل العلوم العربية ما رواه أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد العزيز الميورقي (ت 474هـ)، الذي زار البصرة في سنة 469هـ/ 1076م، إذ رَكِبَ من عمان إلى "بلاد الزنج"، وكان معه من العلوم أشياء فما نَفَق عندهم إلا النحو، وقال: لو أردت أن أكسب منهم ألوفًا لأمكن ذلك، وقد حصل لي منهم نحو ألف دينار، وتأسَّفوا على خروجي من عندهم[28].
ومن الجدير بالذكر أن المدَّ الإسلاميَّ الوافد إلى ساحل شرق إفريقيا في ركاب الهجرات الإسلامية القادمة من جنوب الجزيرة العربية ومنطقة الخليج العربي لم يتوقف على مرِّ السنين، وتوقَّف على ذلك أن تأسَّست مدن إسلامية مزدهرة على الساحل صارت بيئة صالحة لانتشار الإسلام بين الأفارقة من ناحية، وتغَلُّب مظاهر الثقافة العربية الإسلامية عليهم من ناحية أخرى.
ونلْمَسُ ذلك بوضوح في دولة الزنج التي ظهرت في الساحل في القرن العاشر الميلادي، وظلَّت باقية حتى أوائل القرن السادس عشر، رغم القلاقل والانقسامات التي تنازعتها، فقد شيَّدت تلك الدولة عدَّة مدن إسلامية، وأقامت المساجد في كل مدينة، حيث عَرَف الكثيرُ من القبائل الطريقَ إليها، وفي هذا المظهر الديني يتوفَّر الدليل القاطع على أن كثيرًا من الأفارقة قد تحوَّلوا إلى الإسلام.
والحقُّ أنه من المبالغة أن نقول إن الوثنية اختفت تمامًا من المدن الساحلية، حيث ما زالت تعتنقها عدَّة قبائل، وإن كان لا يمكن أن نقارنها بمراكز الوثنية في مناطق الأدغال في غرب ووسط وجنوب القارة الإفريقية، ولكن هذا لا يُقَلِّل من الدور الذي قامت به دولة الزنج في الدعوة إلى الإسلام، وقد كان بوُسع تلك الدول أو العرب المسلمين المقيمين على طول الساحل أن يَصْبُغوا الأفارقة كلَّهم بطابع الإسلام لو لم تقتحم أساطيل الغزو البرتغالي في أوائل القرن السادسَ عشرَ مياه هذا الساحل، الأمرُ الذي أعاق مسيرة المدِّ الإسلامي والثقافة العربية الإسلامية قُرَابة قرنين ونصف، وهي حِقبة طويلة[29]؛ لتبدأ إفريقيا عهدًا جديدًا، وهو عهد الاستعمار الأوربي البغيض، الذي نهب خيراتها، وأذاقها الويلات.
وللحديث عن هذا العهد سنقسِّم دول شرق إفريقيا إلى دول ذات أغلبية مسلمة، وأخرى ذات أقلية مسلمة. أما الدول ذات الأغلبية المسلمة فهي الموضحة بالجدول التالي:
الدولــــــــــة
نسبة المسلمـــــين
الصومــــــال
100%
جيبوتـــــــي
100%
جزر القمـــــر
99.5 %
إريتريـــــــا
85%
تنزانيــــــــا
65%
إثيوبيــــــــا
65%
ورغم الأغلبية المسلمة إلا أن الأرثوذكسية هي الدين الرسمي للدولة!!
موزنبيــــــــق
55%[30]
[27] مدينة كلوة Kilwa تقع في تنزانيا حاليًا.
[28] محمود محمد الحويري: ساحل شرق إفريقية من فجر الإسلام حتى الغزو البرتغالي ص44. وانظر: ياقوت الحموي: معجم البلدان 5/247.
[29] محمود محمد الحويري: ساحل شرق إفريقية من فجر الإسلام حتى الغزو البرتغالي ص41، 42.
[30] انظر: د. شوقي أبو خليل: أطلس دول العالم الإسلامي، طبعة دار الفكر العربي، بيروت 2001م.
التحرك الصليبي ضد الإسلام
بدأت الصليبية العالمية في التحرك عقب سقوط الأندلس عام 1492م، فتوحَّدت كل القوى الصليبية بمباركة البابوية، والهدف هو تَعَقُّب المسلمين، والقضاء على آخر معاقلهم على الساحل الإفريقي، ترتَّب على ذلك أن قامت الحملات الاستعمارية المتتالية في محاولة جادَّة لتطويق المسلمين، وذلك بمساندة ملوك إفريقيا النصارى، وعلى رأسهم ملك الحبشة، فلمع نجم البرتغاليين والأسبان من القرن الخامس عشر حتى القرن التاسع عشر الميلادي، لكن الصبغة التي انتحاها كلٌّ من البرتغاليين والأسبان كانت صبغة صليبية صِرفة، من أجل القضاء على المسلمين، وتتبُّع الهاربين من الأندلس[31].
كان "فاسكو دي جاما" قد وصل إلى نهاية القارة الإفريقية عام 1491م ودار حول القارة الإفريقية حتى وصل إلى الساحل الشرقي، وقد رسا بأسطوله عند مصب نهر أطلق عليه الرحمة، فوصل إلى ثغر موزمبيق في مارس عام 1498م، وبعد رحيل فاسكو دي جاما قَدِم فرنسيسكو ألميدا[32]، وبدأت ظاهرة جديدة هي الاستعراض بالسلاح، من خلال الأساطيل البحرية البرتغالية في المحيط الهندي. وعلى الرغم من الترحيب الذي كان يَلْقَاه البرتغاليون من العرب والأفارقة إلا أن السياسة البرتغالية المتَّبعة كانت تعتمد على استعراض القوَّة، والبطش في التعامل، ولما احتلَّ البرتغاليون جزيرة زنجبار في الساحل الشرقي الإفريقي كان الهدف الأساسي لها هو محاربة الإسلام، وإجهاض الإمارات الإسلامية في شرق إفريقيا، وهو ما اتَّضح جليًّا حينما "استطاعت البرتغال عام 1542م أن تساعد الحبشة المسيحية، وأن تمنع القوَّة التركيَّة الموجودة في سلطنة عدن الصومالية من دخول المملكة الحبشية المسيحية"[33].
استقرَّ الأمر للبرتغاليين في الفترة ما بين 1498م إلى 1698م، قاموا خلالها بتكثيف مخططهم، وهو الدعوة للإنجيل والمسيح، وكانت الحروب الشرسة التي قامت بين البرتغاليين وقاطني المناطق الشرقية من إفريقيا -خاصَّة المسلمين منهم- بمنزلة حروب صليبية حقيقية على غرار ما كانت من الأوربيين أنفسهم في حوض البحر المتوسط خلال القرن الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين.
وحينما سقطت البرتغال في يد ملك إسبانيا فليب الثاني، وإعلانها تابعة لسلطان إسبانيا عام 1580م، بدأت البرتغال في فُقْدَان مستعمراتها الإفريقية، بسبب ضعف مواردها البشرية؛ فهي دولة صغيرة محدودة المساحة والسكان، وهو ما أدَّى إلى "عدم قدرتها على السيطرة التامة على هذه الإمبراطورية الساحلية الكبيرة، التي بسطت نفوذها عليها"[34].
الصراع العربي الأوربي في شرق إفريقيا
وعندما تحرَّرت عُمَان من الاستعمار البرتغالي عام 1650م في عهد الأمير سلطان بن سيف، هبَّ هذا السلطان في نفس العام لمهاجمة المستعمرات البرتغالية في السواحل الشرقية لإفريقيا، وبدأت الحاميات البرتغالية الممتدَّة على الساحل الشرقي في السقوط والتقهقر، حتى كانت النهاية الفاجعة للبرتغاليين والمتمثِّلة في سقوط قلعة يسوع المسيح، وإخضاع ممبسة عام 1698م، وبعد ضعف دولة اليعاربة في عُمَان، استقلَّت معظم الإمارات الإفريقية الشرقية، وكان ذلك في عام 1744م[35].
الاحتلال الأوربي للقارة الإفريقية
ولم تكد هذه الدُّول تستقرُّ حتى بدأت قوًى استعمارية أخرى لا تَقِلُّ خطورة عن البرتغاليين والأسبان، فتكالبت كلٌّ من فرنسا، وألمانيا، وإنجلترا، وبلجيكا، وهولندا، وإيطاليا، بجانب البرتغال وإسبانيا، على القارَّة الإفريقية العاجزة، وكان من جملة الأسباب الرئيسية في احتلال الأوربيين للقارة الإفريقية ما حدث بعد هزيمة الفرنسيين على يَدِ بسمارك المستشار الألماني، وعَقْدِ معاهدة فرانكفورت عام 1871م، التي أَجْبَرَت فرنسا على التنازل عن إلزاس واللورين[36] لألمانيا، وهو ما أهَّل ألمانيا من الناحية المعنوية وخاصَّة عند الشباب الألماني، والناحية المادَّية -والمتمثلة في زيادة الثروات الاقتصادية- في البحث عن مناطقَ جديدةٍ لفرض السيطرة، ولزيادة قدرتها التنافسية، من أَجْلِ تحسين صناعتها، وتطوير التجارة الألمانية.
ومع كلِّ هذه المخططات الألمانية لم تَكُنْ ألمانيا على استعداد في مواجهة جديدة ضدَّ أي قوَّة أوربية أخرى، خشية أن تَعْتَرِضَها فرنسا التي لم تَثْأَرْ لهزيمتها بعدُ، فاتَّجهت ألمانيا إلى القارة الإفريقية، وكوَّنت في غضون عام واحد أربع مستعمرات شملت كُلاًّ من تنجانيقا -تنزانيا حاليًّا- في شرق إفريقيا، والكاميرون وتوجو في الغرب، وناميبيا في جنوب غرب القارة الإفريقية[37].
كلُّ هذه التحرُّكات الألمانية وما قابلها من تحرُّكات فرنسية استعماريَّة في إفريقيا، دفعت بريطانيا للخروج من عزلتها وانحيادها في التحرُّك في جنوب القارة، فبدأت الصراعات بين القوى الثلاث، وبدأت المحالفات بين ألمانيا والبرتغال مذكِّرة الأخيرة ما كان لها من مجد قويٍّ يجب إحياؤه من جديد، وقد لاقت المعاهدة البريطانية البرتغالية الموثَّقة في عام 1884م معارضة قويَّة، أحدثت تقاربًا بين كُلٍّ من ألمانيا وفرنسا[38]، فأسرعت كلُّ قوَّة من هذه القوى في السيطرة على مناطق جديدة في القارة، فتطلعت إيطاليا في السيطرة على بعض الأجزاء وخاصَّة في المناطق الشرقية من إفريقيا، وفكَّر ملك بلجيكا ليوبولد في السيطرة على حوض نهر الكونغو، الذي كان منطقة استراتيجية[39]، كلُّ هذا بهدف بناء الإمبراطوريات، وتحقيق الأمجاد القوميَّة، وسيادة الرجل الأبيض، وتطبيق النظريَّات العنصرية، كلُّ هذه الأسباب جعلت الدول الأوربية تسعى سعيًا حثيثًا للجلوس معًا للتفاهم، وهو ما كان مسوِّغًا أساسيًّا في عقد مؤتمر برلين عام 1884- 1885م.
[31] عبد الله عبد الرازق: الإسلام وتحدّي الاستعمار الأوربي في إفريقيا ص9، 10 بتصرف.
[32] هو أحد قوّاد الملك "مانويل الأول" ملك البرتغال أرسله لاحتلال الهند، واستكشاف المناطق الساحلية المواجهة لبحر العرب.
[33] عبد الفتاح مقلد الغنيمي: الإسلام والمسلمون في شرق إفريقيا ص173.
[34] المصدر السابق ص185.
[35] السابق نفسه ص190-200 باختصار وتصرف.
[36] منطقتان فرنسيتان احتُلتا من قِبَلِ ألمانيا أثناء الحرب الألمانية الفرنسية عام 1871م، وقد استردتها فرنسا عقب هزيمة الألمان في الحرب العالمية الثانية.
[37] عبد الله عبد الرازق: الإسلام وتحدّي الاستعمار الأوربي في إفريقيا ص18، 19 بتصرف.
[38] المصدر السابق.
[39] يُعتبر حوض نهر الكونغو منطقة استراتيجية بالنسبة لكل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا، باعتباره منطقة مهمة للنفوذ التجاري لكل من البلدان السابقة.
تقسيم إفريقيا
دَعَتْ بريطانيا ألمانيا إلى عقد مؤتمر دُولي لشئون إفريقيا في برلين، يجمع الدُّول المتصارعة مع روسيا، والنمسا، والدنمارك، والسويد، وإيطاليا، وتركيا، والولايات المتحدة، واتخذ المؤتمر مجموعة من القرارات، كانت في مجملها تَنُصُّ على حُرِّيَّة التجارة في حوض الكونغو والنيجر، وإلغاء الرقيق، وحياد إقليم الكونغو، ووَضْعِه تحت سيطرة ملك بلجيكا، وقرَّر المؤتمر حُرِّيَّة الملاحة، في حوضه وحوض النيجر، وأصدر المؤتمر قراراته التي وضعت اتجاهات تجزئة القارة دون حسابٍ لحقوق مواطنيه[40]؛ فوقع شرق إفريقيا بعد التقسيم تحت الاستعمار، فكانت ممتلكات فرنسا في الشرق الإفريقي الصومال الفرنسي (جيبوتي) ومدغشقر، واحتلَّت إيطاليا الصومال الجنوبي وإريتريا، واحتلَّت بريطانيا الجزء الشمالي من الصومال المعروف حاليًّا بجمهورية أرض الصومال، وجزيرتَيْ زنجبار وتنجانيقا، وكينيا وأوغندا، كما احتلَّت ألمانيا تنجانيقا (إفريقيا الشرقية الألمانية)، واحتلَّت البرتغال موزمبيق[41]. وبالرغم من خروج المؤتمر بالعديد من القرارات والموادِّ، إلاَّ أن المسائل المُهِمَّة والمتمثلة في القضايا الإقليمية الكبرى قد تمَّت دراستها والاتِّفاق بشأنها في سلسة من الاتِّفاقيات الثنائية امتدَّت عَشْرَ سنوات متواصلة بعد المؤتمر.
وكانت السياسة المتَّبعة مع دُول شرق إفريقيا من جانب المستَعْمِر أن يتعامل معها تَبَعًا لموقعها الجغرافي والاستراتيجي، فكانت الصومال وكينيا وأوغندا من الأهداف الاستراتيجية لبريطانيا لتأمين مصر خصوصًا بعد افتتاح قناة السويس عام 1869م؛ فأوغندا منبع النيل، وهو ما يجعل الوضع مستقرًّا في مصر، واحتلال الصومال الشمالي يؤمِّن للإمبراطورية البريطانية حماية الطريق المؤدِّيَة للهند، أما موزمبيق بالنسبة للبرتغال فهي بمنزلة افتخار لحركات الكشوف الأولى للقارة الإفريقية، التي يرجع الفضل فيها للبرتغاليين أنفسهم، خصوصًا أن موزمبيق قد احتُلَّت مدَّة خمسة قرون كاملة.
وطِبْقًا لمؤتمر برلين لم تُقَسَّم إفريقيا بالتساوي، فلم ترضَ كلٌّ من ألمانيا وإيطاليا عن نصيبيهما، فبدأت ألمانيا في زيادة قدراتها الحربية والعسكرية، بإنشاء الأساطيل الألمانية البحرية في عام 1897م، مسيطرةً بذلك على بحر الشمال، ثم بَدَأ النزاع بين فرنسا وألمانيا على القضية المراكشية[42]، فكان ممَّا لا بُدَّ منه وقوع نزاع جديد لإعادة تقسيم القارة والمستعمرات.
ونشبت الحرب العالمية الأولى، ولتفوُّق الحلفاء العسكري -وخاصَّة من الناحية البحرية- وعَجْزِ ألمانيا على حماية البحار الواقعة تحت سيطرتها، استطاعوا إخراجها من إفريقيا، وكان وراء هذا الصراع معاهدات سرِّيَّة، فمنها معاهدة لندن السرِّيَّة (26 من إبريل 1915م)؛ فقد قدَّمت كلٌّ من بريطانيا وفرنسا وَعْدًا إلى إيطاليا لحصولها على أجزاءٍ من إفريقيا، ووافقت الدولتان على تقسيم ممتلكات ألمانيا، بِنَاء على هذه الاتِّفاقيات السرِّيَّة، ثم هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، فوقعت المستعمرات الألمانية تحت الانتداب، فوُضِعَتْ إفريقيا الشمالية الشرقية التي كانت مستعْمَرَة ألمانية تحت الانتداب البريطاني، وسُحبت تنجانيقا، واستُثْنِيَت رواندا أوروندي فانْتُدِبَتْ لها بلجيكا[43].
كل هذه الانتدابات ذات الأهداف التي كانت تدور في مجملها على تنمية الشعوب، ورفاهيتها، ورفع مستواها السياسي، كانت في حقيقتها مجموعة من الأباطيل؛ إذ هدف الاستعمار في حقيقته استنزاف الشعوب، والقضاء على خيراتها.
[40] عبد العزيز رفاعي: مشاكل إفريقيا في عصر الاستقلال ص56 بتصرف.
[41] المصدر السابق ص57 بتصرف.
[42] الأزمة المراكشية: أرادت ألمانيا أن تَحُولَ بها دون عزم فرنسا على توطيد نفوذها في مراكش، غير أن الحكومة الألمانية لم تنلْ في هذه الأزمة سوى نجاح جزئي؛ لأن مؤتمر الجزيرة الذي انتهى في نيسان 1906م، أعاق عمل فرنسا بجعل القضية المراكشية تحت ضمان دُولي، ولكنه خوَّل فرنسا وكذلك إسبانيا حقَّ تنظيم الضابطة (الشرطة) المراكشية.
[43] عبد العزيز رفاعي: مشاكل إفريقيا في عهد الاستقلال ص55-60 بتصرف.
العالم الإسلامي تحت الاحتلال
وفي هذه الأثناء كان العالم العربي الإسلامي في سُبَاتٍ عميق، وتحت وطأة استغلال بغيض، فقد الْتَفَّت بريطانيا حول الوطن العربي، فاحتلَّت عدن في عام 1839م، كما احتلَّت فرنسا إفريقيا الشمالية (الجزائر)، ثم احتلَّت بريطانيا مصر في عام 1882م، وهو ما جعل شوكة هذه الدُّول في الازدياد والقوة، فوقعت معظم دول إفريقيا، ومنها شرقي إفريقيا تحت وطأة الاحتلال الأوربي.
ونظرًا لهذا الضعف العامِّ الذي أصاب العالم الإسلامي، ففقد هيبته أمام المجتمع الدُّولي، ظلَّ المحتلُّ الغربي جاثمًا على صدور الأفارقة -واتسم الغالبية منهم بالإسلام- مستنزِفًا لثرواتهم، ومضيِّعًا لحقوقهم، إلا أن هناك مجموعة من الدُّول استطاعت التحرُّر والاستقلال، وساعدت بكل ما أُوتِيَت من قوَّة كل الدُّول الإفريقية الأخرى في التحرُّر؛ ففي اجتماع "أكرا" عاصمة "غانا" في إبريل عام 1958م -والذي اشتركت فيه مجموعة الدُّول الإفريقية الثماني[44] عدا جنوب إفريقيا- طالب الأعضاء بضرورة مساعدة الشعوب غير المستقلَّة في نضالها من أجل الاستقلال[45].
ثم إن الدول الأوربية المستعمِرة كانت قد انتهجت أسلوبًا جديدًا في فلسفة الاستعمار ومفهومه، وهو استنزاف خيرات الدول، وتسيير مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية دون وقوعِ خسائرَ في الأموال والأنفس، خاصة بعد قيام الحركات التحررية في إفريقيا (1955م - 1965م) بالجهاد ضدَّ المستعمر.
وإذا كُنَّا فيما مضى نتحدث عن شرق إفريقيا بصفة عامَّة، فالحال هنا مختلف؛ نظرًا لما أصاب هذا الشرق من تفكُّك بعد الاحتلال، وتفكيكُ التكتلاتِ الكبيرة هي وسيلة استعمارية لا تتغيَّر، يَتَّبعها المحتلُّون لتقطيع أوصال الضحيَّة، حتى يَسْهُلَ السيطرة عليها، ومن ثَمَّ نتحدَّث عن هذه الدُّولِ كلٍّ على حِدَة.
[44] المقصود بالدول الإفريقية الثماني: غانا وليبريا ومصر وتونس وليبيا والسودان ومراكش وجنوب إفريقيا.
[45] عبد الله عبد الرازق إبراهيم: موسوعة التاريخ والسياسة في إفريقيا ص10 بتصرف.
الاستعمار في الصومال
ففي عام 1899م ظهر في الصومال محمد بن عبد الله حسن الشهير بالمُلاَّ، وقد نادى بالجهاد المقدَّس، واستطاع أن يستقلَّ بالبلاد مدَّة عشرين عامًا، مما ضايق البريطانيين، وأضرَّهم أشدَّ الضرر؛ واضطرهم إلى إخلاء الأقاليم الداخلية من الصومال في المدَّة ما بين عامَيْ 1900م إلى 1904م، وظلَّ الملا محمد بن عبد الله شوكةً قوية في حَلْقِ الإنجليز حتى عام 1920م، ولقد أوقع الملا وأتباعه في الإنجليز مجموعة من الهزائم المتتالية بلغت ما يقرب من أربعين موقعة.
وبعد موت الشيخ محمد بن عبد الله استمرَّ الجهاد في الصومال ما يقرب من أربعين عامًا، ففي عام 1943م بَرَزَ في مقديشو حزب سياسي باسم "رابطة وَحدة الشباب" نادى بتحرُّر الصومال، ووَحدة أقاليمه الخمسة، واشترط البَرنامج الرسمي للحزب أن يكون الصومال جزءًا من الوطن العربي والإسلامي الكبير، وفي المدَّة ما بين 1948م إلى 1955م سلَّمت بريطانيا إلى الحبشة غدرًا أقاليم: "أوجادين، وهود، والمنطقة المحجوزة"، وقُسِّمت الصومال بين خمس دُول هي إنجلترا، وفرنسا، وإيطاليا، والحبشة، وكينيا، وبعد نضال طويل واستنزاف في قوة المستعْمِر استقلَّ الصومال البريطاني، وتلاه الصومال الإيطالي في عام 1960م، ثم اتحد الاثنان في جمهورية واحدة عام 1961م[46].
احتلال فرنسا لجيبوتي
أما جيبوتي[47] التي كانت جزءًا من الصومال فقد احْتَلَّتها فرنسا عام 1882م، وهو نفس العام الذي احْتَلَّت فيه بريطانيا مصر، وكانت جيبوتي جزءًا من الصومال، وبعد مجموعة من المشاحنات بين فرنسا وإنجلترا على مناطق النفوذ على إقليم جيبوتي، اتَّفقت الدولتان على أن خطَّ السكك الحديدية الذي يمرُّ من جنوب جيبوتي إلى حدود الصومال وإثيوبيا يُعتَبَر حدًّا فاصلاً بين ما تمتلكه فرنسا في شماله، وما يقع تحت سيطرة إنجلترا في جنوبه، لكنَّ السكان في جيبوتي سعَوْا أكثر من مرَّة إلى الاستقلال والانفصال عن فرنسا.
وقد استمرَّ الشعب في نضاله بعد الحرب العالمية الثانية، لكن فرنسا اعْتَبَرَت جيبوتي جزءًا من الاتحاد الفرنسي الذي أنشئ بعد مؤتمر برازفيل في عام 1944م، ثم إن فرنسا سمحت في عام 1950م بإنشاء مجلس تشريعيٍّ مؤلَّف من خمسة وعشرين عضوًا، لكنَّ السلطة الفعلية كانت في يد الحاكم الفرنسي، وظهرت في الإقليم بعض الأحزاب السياسية، منها حزب الاتحاد الجمهوري الذي يدعو للوَحدة مع الصومال، ومع استمرار أعمال النضال، والمحاولات المتتالية في الاستقلال عن فرنسا، وافقت فرنسا على استقلال جيبوتي في عام 1977م[48].
[46] جمال عبد الهادي محمد، علي لبن: المجتمع الإسلامي المعاصر (ب) إفريقيا ص100، 101 بتصرف.
[47] كانت تعرف باسم "عفار وعيسى".
[48] عبد الله عبد الرازق إبراهيم: موسوعة التاريخ والسياسة في إفريقيا ص275، 276 بتصرف.
المسلمون في إثيوبيا
أما في إثيوبيا -الحبشة- فقد استطاعت القوى الاستعماريَّة أن تُجْبِرَ المسلمين -الذين يمثِّلون ثلثَيْ سكان الحبشة تقريبًا- أن يُحْكَمُوا عن طريق الأمهرة النصارى، وأدَّى تفوُّق "منليك" إمبراطور الحبشة، وانتصارُه واستيلاؤُه على مدينة "هَرَر" عام 1887م إلى سقوط الحكم الإسلامي الذي استمرَّ أربعمائة سنة دون انقطاع، رغم الثورات المتكرِّرة من شعب الأورومو وغيره من الشعوب الإسلامية الأخرى في بلاد الحبشة.
وقد قام السلطان "محمد علي" -وهو من خيرة سلاطين الأورومو- بمقاومة حكم "منليك"، ولكنَّه هُزم، فاختار التَّنَصُّرَ الظاهريَّ على القتل، وقد أَنْجَبَ "ليج ياسو" من ابنة "منليك"، ولما تُوُفِّيَ "منليك" في عام 1913م انتقل الحكم لحفيده "ليج ياسو"، الذي ما لَبِثَ أن أعلن إسلامه، وأبدل العَلَمَ القديم الذي يحمل الصليب بالعَلَمِ الجديد الذي يحمل الهلال، والمنقوش عليه: "لا إله إلا الله محمد رسول الله".
لكنْ لم تَرْضَ كُلٌّ من إنجلترا، وفرنسا، وإيطاليا، وروسيا، فعَمِلوا على إقصائه من الحكم، وتعيين "هيلاسيلاسي" الذي قام بوضع "ليج ياسو" في السجن مدَّة عشرين عامًا، إلى أن مات هناك في عام 1936م، واستمرَّ حكم "هيلاسيلاسي" مدَّة خمسين سنة، مما أضفى على الحدود التي أمدَّها "منليك" صِفَةَ الأمرِ الواقع والمشروعيَّة الدُّولية، وعلى الرغم من هذه الحركات التحرُّريَّة والاستقلاليَّة المتتالية من شعب الأورومو المسلم، إلا أنهم ما زالوا في درجة من الضعف لا تُمَكِّنُهم من الاستقلال، ثم إنهم ما زالوا مطارَدِين من السلطات الإثيوبية. أما جبهة تحرير الصومال الغربي "أوجادين" التي كانت بلادهم "الصومال الغربي" واقعة منذ الاستقلال عام 1954م تحت سيطرة الصومال؛ فقد عُقِدَ اتِّفاق سِرِّيٌّ بين بريطانيا والحبشة في عهد "هيلاسيلاسي"، خُوِّل من خلاله "هيلاسيلاسي" من ضمِّ الإقليم المُسْلِم إلى أراضي الحبشة، ورغم التاريخ الجهادي الطويل منذ الاستقلال وحتى الآن، فإن الحكومة الإثيوبيَّة لا تقدِّم أدنى الاهتمامات لهذا الإقليم الفقير[49].
والغريب أنه رغم كون المسلمين في إثيوبيا يمثِّلون ثلثي السكان تقريبًا، إلا أن الدِّينَ الرسمي للدولة هو المسيحية، وهو ما يؤيده إحصاء عام 1993م الذي أشار إلى أن عدد المسلمين في الحبشة بلغ 27 مليونًا من مجموع السكان البالغ عددهم 45 مليونًا، وقد حرص الرئيس "زين
الأربعاء يونيو 22, 2016 6:44 pm من طرف khaled
» القضاء الاداري يصدر حكما بإلغاء اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية
الثلاثاء يونيو 21, 2016 5:25 pm من طرف khaled
» جبتلكو سلسلة رويات رجل المستحيل المعروفة للتحميل المباشر
الإثنين ديسمبر 28, 2015 5:53 pm من طرف abazer
» العلاقات المصرية السودانية في عهد محمد علي وخلفاؤه
الجمعة يناير 17, 2014 10:28 am من طرف khaled
» انجولا وحظر الاسلام (1)
الخميس نوفمبر 28, 2013 12:21 pm من طرف Ibrahimovech
» التفسير الاقتصادي للتاريخ
الأربعاء يونيو 19, 2013 1:34 am من طرف khaled
» كرسي العناد ........ السلطة سابقا
الثلاثاء يناير 29, 2013 5:56 pm من طرف khaled
» جمهورية جزر القُمر الاسلامية الفيدرالية دراسة جغرافية
الأحد يناير 06, 2013 2:21 am من طرف khaled
» بعض الفروق السياسية بين المجلس العسكري الي حكم مصر بعد الثورة وبين الاخوان لما وصلوا للحكم
الأربعاء نوفمبر 28, 2012 6:14 pm من طرف khaled