وُلد تيودور هرتزل عام 1860 لأب تاجر ثري. وكان يحمل ثلاثة أسماء، أهمها اسمه الألماني «تيودور»، وثانيها اسمه العبري «بنيامين زئيف»، وثالثها اسمه المجري «تيفا دارا». والتحق تيودور الصغير بمدرسة يهودية وعمره ست سنوات لمدة أربعة أعوام انقطعت بعدها علاقته بالتعليم اليهودي. ولذا، لم يُقدَّر له أن يَدرُس العبرية، بل لم يكن يعرف الأبجدية نفسها. والتحق بعد ذلك بمدرسة ثانوية فنية، ومنها التحق بالكلية الإنجيلية 1876 وعمره 15 سنة (أي أنه التحق بمدرسة مسيحية بروتستانتية، ولعله تَلقَّى تعليماً دينياً مسيحياً هناك)، وأنهى دراسته عام 1878. وكانت أسرة هرتزل مجرية النسب. إلا أنها، ضمن مجموعة من اليهود، قاومت عملية المجيرة (أي صبغها بالصبغة المجرية) واحتفظت بولائها لألمانيا (مثل كثير من يهود المجر: ماكس نوردو وجورج لوكاش وغيرهما).
ولذا، نزحت الأسرة إلى فيينا عام 1878. وكان عدد اليهود في فيينا آنذاك (1881) لا يزيد على عشرة آلاف يهودي، ولكن تَعثُّر التحديث في شرق أوربا أدَّى إلى دَفْع جحافل اليهود إلى وسط وغرب أوربا بحيث بلغ عددهم عام 1899 ما يزيد على 100 ألف، أي أنهم زادوا عشرة أضعاف خلال أقل من عشرة أعوام.
التحق هرتزل بجامعة فيينا وحصل على دكتوراه في القانون الروماني عام 1884 وعمل بالمحاماة لمدة عام، ولكنه فضل أن يكرس حياته للأدب والتأليف. ومع هذا، ظلت عقليته أساساً عقلية قانونية تعاقدية، فنشر ابتداءً من عام 1885 مجموعة من المقالات، وكتب بعض المسرحيات التي لم تلاق نجاحاً كبيراً من أهمها مسرحية الجيتو الجديد (1894) التي تقدم صورة متعاطفة مع بطلها، إلا أنها تقدم اليهود من خلال الأنماط المعروفة في تراث معاداة اليهود في الغرب. وتنتهي المسرحية بأن يطلب البطل الخروج من الجيتو العقلي المضروب حوله، ولكنه في الوقت نفسه يؤكد استحالة هذه العملية.
ولعل بطل المسرحية يشبه من بعض الوجوه زعماء الحركة الصهيونية في تلك المرحلة، هرتزل وبنسكر ونوردو وجابوتنسكي وغيرهم ممن حاولوا الاندماج في الحضارة الغربية وحاولوا تَرْك تراثهم تماماً ونسيان هويتهم اليهودية (الإثنية والدينية). ولكنهم تصوروا أنهم لم يوفقوا في مساعيهم ولم يتمكنوا من العودة بسبب بعض مظاهر معاداة اليهود أو بسبب تصنيف المجتمع لهم على أنهم يهود.
فهم يهود رغم أنفهم، يهود وغير يهود. وقد وَصَفهم نوردو هم وأمثالهم وصفاً دقيقاً في المؤتمر الصهيوني الأول (1987): "يسرع اليهود المندمجون إلى قَطْع خطوط رجعتهم وذلك بتأثير نشوة وضعهم الجديد. لقد أصبح عندهم الآن بيوت جديدة فلم يعودوا بحاجة إلى عزلتهم. أصبح لديهم الآن معارف جدد، فهم غير مجبرين على العيش مع إخوانهم في الدين، وتحوَّل الشعور بالاختلاف إلى تعمُّد التقليد الأعمى". لقد فقد هؤلاء المندمجون هويتهم الإثنية وهويتهم الدينية "لقد فقدوا ذلك الإيمان الذي قد يساعدهم على تحمُّل العذاب واعتباره مجرد قصاص من الإله، كما فَقَدوا الأمل في مجيء الماشيَّح الذي سيوجههم إلى المجد في يوم عجيب". وكلما حاولوا التهرب من اليهودية حتى عن طريق التنصُّر، تدفع بهم معاداة اليهود بعيداً عن هدفهم. ولذا، فإنهم يصبحون "المارانو الجدد" أي مسيحيون من الخارج يهود من الداخل. ولكن منطق نوردو نفسه يجعلنا نعتقد أن يهوديتهم الداخلية ضعيفة هامشية، تماماً مثل يهودية المارانو.
في عام 1889، تزوج هرتزل من جولي نتشاور وكانت من أسرة ثرية كان يأمل هرتزل أن يحل من خلالها بعض مشاكله المالية. ولكن الزواج لم يكن موفقاً بسبب ارتباط هرتزل الشديد بأمه التي غذت أحلامه، فقد قامت نشأته على تصوُّر من ينتدب نفسه لتحقيق عظائم الأمور ويحلم بأنه صاحب رسالة في الحياة. ويبدو أن مما عقَّد الأمور، عدم حماس الزوجة للتطلعات الصهيونية لدى زوجها. ولعل مشاكل هرتزل الجنسية لعبت دوراً في ذلك، إذ يبدو أنه أصيب بمرض سري (شأنه شأن نيتشه معاصره) وتنقَّل في عدة مصحات للاستشفاء من هذا المرض.
وفي عام 1891، التحق هرتزل بصحيفة نويا فرايا براسا أوسع الصحف النمساوية انتشاراً، وأُرسل إلى باريس للعمل مراسلاً للصحيفة هناك (حتى عام 1895) حينما عُيِّن رئيساً لتحرير القسم الأدبي في الصحيفة وبقى في عمله حتى وفاته.
وهنا قد يكون من المفيد التوقف قليلاً للتحدث عن هوية هرتزل التي كانت تقف بين عدة انتماءات دينية إثنية متنوعة (ألمانية ـ مجرية ـ يهودية ـ بل مسيحية) دون أن ينتمي لأيٍّ منها أو يُستوعَب فيها. فإذا نظرنا لانتمائه اليهودي، فإننا نجد أنه يرفض الدين اليهودي والتقاليد الدينية اليهودية. والواقع أن زوجته كان مشكوكاً في يهوديتها، وقد رفض حاخام فيينا إتمام مراسم الزواج. كما أن هرتزل لم يختن أولاده ولم يكن الطعام الذي يُقدَّم في بيته «كوشير»، أي مباحاً شرعاً. أما تَصوُّره للإله، فلم يكن يستند إلى العقيدة اليهودية بقدر استناده إلى فلسفة إسبينوزا بنزعته الحلولية التي توحِّد الإله والطبيعة، فهي حلولية وحدة الوجود أو حلولية بدون إله (وقد طُرد إسبينوزا نفسه من حظيرة اليهودية ولم يَتبنَّ ديناً آخر، ولهذا فإنه يُعَدُّ أول يهودي إثني في العصر الحديث). وقد تأثر هرتزل بتعاليم شبتاي تسفي الماشيَّح الدجال وظل مشغولاً به وبأحداث حياته.
أما من الناحية الثقافية، فإن هرتزل كان ابن عصره، يجيد الألمانية والمجرية والإنجليزية والفرنسية. ويبين أحد مؤرخي الحركة الصهيونية أن اتخاذ هرتزل دور الداندي (أي الوجيه الذي يبالغ في الأناقة) وتَظاهُره بأنه من الأرستقراطيين هو القناع الذي كان يختبئ وراءه ليهرب من هويته اليهودية. وكان هرتزل لا يعرف العبرية، وقد تساءل علناً وبسخرية (في المؤتمر الصهيوني الثالث [1899]) عما يُسمَّى «الثقافة اليهودية».
وحينما قرَّر مجاملة حاخامات مدينة بازل، اضطر إلى تأدية الصلاة في كنيس المدينة قبيل افتتاح المؤتمر الصهيوني الأول (1897)، كما اضطر إلى تعلُّم بضع كلمات عبرية لتأدية الصلاة. وكان المجهود الذي بذله في تعلُّمها أكبر من المجهود الذي بذله في إدارة جلسات المؤتمر بأسرها (حسب قوله). ومما له دلالة عميقة أن هرتزل كان يرى أنه دزرائيلي يهودي، ودزرائيلي هو اليهودي المُتنصِّر الذي دخل عالم الغرب من خلال باب غربي وبشروط غربية بعد أن تخلَّى عن يهوديته أو الجزء الأكبر منها. أما هرتزل فقد فعل مثله تماماً باستثناء التخلي عن القشرة اليهودية المتبقية.
ولكن، ورغم ابتعاده عن الثقافة اليهودية، نجده متأثراً بعقيدة الماشيَّح المخلّص، ونجد أن ذكرها يتواتر في مراسلاته ومذكراته بأسلوب ينم عن الإيمان بها وإن كان الأمر لا يخلو من السخرية منها في آن واحد.وكان اهتمامه ينصب على الماشيَّح الدجال شبتاي تسفي. وقد استخدم هرتزل كلمة «الخروج» التوراتية ليشير إلى مشروعه الاستيطاني، الأمر الذي يدل على أن الأسطورة التوراتية كانت تشكل جزءاً من إطاره الإدراكي. وتتداخل الأساطير الحديثة مع الأساطير اليهودية، ونجده يعتبر أن فرديناند ديليسبس مَثَله الأعلى في الحياة، ونجده يرى أن الكهرباء هي الماشيَّح المنتظر (وهذا امتداد لرؤية إسبينوزا للإله). لكل ذلك، لا يمكن القول بأنه كان يهودياً حقاً (كما هو الحال مع حاخامات الحسيديين مثلاً) ولا حتى بالمعنى الإثني (كما هو الحال مع وايزمان وآحاد هعام)، ولا هو مندمج تماماً (كما هو الحال مع إدوين مونتاجو وأثرياء يهود إنجلترا)، فهو مُعلَّق في الهواء في منطقة حدودية تلتقي فيها الحلولية الكمونية اليهودية بالحلولية الكمونية العلمانية.
هذه الهوية الهامشية التي تقف على حافة الهويات الأخرى كانت أمراً مقبولاً حسب تعريف الهوية في الإمبراطورية النمساوية/ المجرية، فهو تعريف لم يكن محدداً أو ضيقاً وإنما كان (كما هو الحال دائماً مع الإمبراطوريات) تعريفاً رحباً سمحاً يسمح بتعايش التناقضات. ولهذا، فقد كان من الممكن أن يسمح بوجود مثل هذه الشخصية التي لا تنتمي لليهودية من الناحية الدينية أو الإثنية. ومع هذا، كان بإمكانه التحدث عن نفسه كيهودي دون أن يثير الضحك، كما كان بإمكانه أن يتحدث عن القومية اليهودية والانفصال اليهودي (وقد كان هو شخصياً يتمتع بالاندماج)
ولعل هامشية الانتماء الحضاري هذا يفسر جانباً آخر من شخصية هرتزل وهو ذكاؤه الحاد وسطحيته الشديدة. وقد وَصَفه مؤرخ الصهيونية وولتر لاكير بأن تفكيره يتصف بالتبسيط الشديد. ووَصَفه مؤرخ آخر هو حاييم فيتال، في أكثر من مكان، بأنه ذكي دون أن يكون عميقاً، وأنه لم يكن يدرك كثيراً من الأبعاد السياسية لعصره. أما شلومو أفنيري، فيرى أن كتاباته قد تكون متألقة لامعة ولكنها ينقصها العمق الروحي، كما تحدَّث عن "الجانب الخفيف" في طبيعته، أي سطحيته.
ويطرح السؤال نفسه: كيف تتمكن شخصية هامشية سطحية (رغم كل ذكائها)، شخصية لم يكن عندها مصادر مالية، تقف ضدها كل المؤسسات الدينية والمالية اليهودية ولم يكن لديها تنظيم، أن تفرض نفسها بهذا الشكل؟
يفسر أحد مؤرخي الحركة الصهيونية (شلومو أفنيري) هذه الأعجوبة بسببين أولهما: كفاح هرتزل البطولي الذي يكاد يكون جنونياً، وثانيهما: اكتشافه الرأي العام العالمي وألاعيب الإعلام. بل يضيف قائلاً: "إن المشروع الصهيوني قد نجح إلى حدٍّ كبير، حتى الوقت الحاضر، في الوقوف ضد قوة السياسة والتاريخ"، بسبب الرأي العام. ولعل هذا قد يفسر بعض أسرار نجاح هرتزل، ولكنه لا يصلح بأية حال لتفسير نجاحه في تَخطِّي الحاخامات والأثرياء وجمعيات أحباء صهيون وأن يفرض نفسه فرضاً على الجميع ويتحدث باسم يهود أوربا الذين لم يعطوه الصلاحية لأن يفعل ذلك.
ولكننا نعتقد أن نجاحه يكمن في نقط قصوره وهامشيته وذكائه السطحي، إذ تضافرت هذه العوامل وجعلته قادراً على أن يصل إلى الصيغة التي تفتح الطريق المسدود الذي كانت الصهيونية (بشقيها اليهودي وغير اليهودي) قد دخلته. فهامشيته جعلته قادراً على أن ينظر مثلاً لليهود من الخارج على طريقة العالم الغربي «كمادة بشرية» (المصطلح الذي استخدمه في دولة اليهود) يجب التخلص منها أو توظيفها. ولذا، فإن اهتمامه باليهود كان اهتماماً غربياً. ولعل هذا يفسر أن الحلول الأولى التي طرحها للمشكلة اليهودية تتسم بكثير من السوقية الفظة، كأن يقترح تعميد اليهود في كاتدرائية القديس بول في روما.
وكما بيَّنا من قبل، لم يكن هرتزل يعرف شيئاً عن عالم اليهود ولكنه كان يعرف بعض الشيء عن شخصيات الاستعمار الغربي مثل بنجامين دزرائيلي وسيسل روديس وهنري ستانلي، وعن موازين القوى وعن رجل أوربا المريض وعن التشكيل الاستعماري الغربي.
ورغم كل هذا ورغم إعجابه الشديد بمؤسسات الحضارة الغربية، ابتداءً من العقلية الألمانية وانتهاءً بالمشروع الاستعماري والتكنولوجيا الغربية، إلا أنه اكتشف أن هذه الحضارة قد أوصدت أبوابها دونه أو على الأقل دون الاندماج التام الذي كان يطمح إليه، فتعرَّض لتمييز عنصري ولسخرية لأنه يهودي، فتذكرة الدخول للحضارة الغربية والاندماج الكامل فيها كان لا يزال اعتناق المسيحية (كما اكتشف هايني). ولعل انتماءه إلى جماعة شبابية للمبارزة، وهي جماعة ذات مُثُل قومية ألمانية عضوية، دليل على حرصه على الانتماء الألماني. ولكن الجمعية اتخذت قراراً عام 1881 بعدم ضم أعضاء يهود جدد فقرر الاستقالة احتجاجاً على القرار (ولكن مما له دلالته أن صاحب الاقتراح كان هو نفسه شخصية هامشية، فهو نمساوي من أصل يهودي).
إن هرتزل بهذا المعنى مثال جيد على «اليهودي غير اليهودي»، ولذا كان بإمكانه أن يلعب دور الجسر الموصل، فينظر إليه الغرب على أنه رسولهم إلى اليهود وينظر إليه اليهود على أنه رسولهم للغرب. وهو شخصية هامشية حدودية يستطيع الغرب أن يراه على أنه اليهودي الذي يحمل مُثلاً غربية لليهود فيُفهِّمهم ويساعدهم، وبإمكان اليهود أن يروه الغربي الذي يفهم المسألة اليهودية من الداخل ويعاني منها معهم ويمكن أن يشرح حالتهم للعالم الغربي.
ومما له دلالته أن هرتزل لم يكن يُفرِّق بين صهيونية غير اليهود وصهيونية اليهود، فهو في مذكراته يَقرن موسى هس بدزرائيلي بجورج إليوت كممثلين للفكرة الصهيونية. وإذا قرنَّا كل ذلك بجهله بفكر "رجل يُدعى بنسكر" كان يعيش في أوديسا بل بكل ما هو يهودي، لأصبح من الممكن أن نتحدث عنه باعتباره نتاج صهيونية غير اليهود وأن أصوله اليهودية مسألة عرضية.
وقد ظهر هرتزل في مرحلة كانت صهيونية غير اليهود وصهيونية شرق أوربا فيها قد دخلت طريقاً مسدوداً، فالفريق الأول كان ينظر لليهود من الخارج وكان الثاني لا ينظر إلى الخارج أبداً، أما هو فيهودي غربي، أو إن أردنا الدقة لا هو من شرقها ولا هو من غربها وإنما من وسطها، يقف بين شرقها المتعثر وغربها المندمج. ورغم أنه يهودي كُتب عليه المصير اليهودي، إلا أنه كان كصحفي نمساوي يتحرك بكفاءة في الأوساط الغربية كما كان يتحدث لغتها. وقد قال هو نفسه إنه "تعلَّم في باريس كيف يدار العالم". وكان قد ذهب إلى باريس وعمره 31 عاماً وتركها وعمره 35 عاماً.
وقد كانت جماهير شرق أوربا تنظر إليه لا باعتباره من وسط أوربا وإنما باعتباره غربياً، واعتُبرت عودته لها إحدى علامات آخر الأيام. وقد عبَّر وايزمان عن هذا الإحساس خير تعبير، بأسلوبه المتورم دائماً حين قال: "أتى هرتزل من عالم غريب لم نعرفه فركعنا أمام النسر الذي جاء من تلك البلاد [ولنلاحظ الصورة الوثنية هنا، فالنسر علامة القوة ورمز عالم الأغيار بكل تأكيد]. ولو أن هرتزل قد تتلمذ في مدرسة دينية (حيدر) لما تبعه أحد من اليهود [يعني يهود شرق أوربا] لقد سحر اليهود لأنه ظهر في قلب الثقافة الأوربية".
ولكن هرتزل عاد إلى الشرق بشروطه الغربية، عاد ليُخرج يهود اليديشية من نطاق يهوديتهم التقليدية، أو كما قال نوردو "ليُخرج كل جهودهم الصهيونية من إطار الكنيس والاجتهادات الدينية"، لقد عاد كما عاد هس من قبله وكما يفعل الصهاينة من بعده.
ولا ندري بالضبط سبب العودة التي تبدو فجائية، ولكننا نعتقد كما ذكرنا أن الهامشية كانت بكل تأكيد أحد الأسباب التي أهلته للعودة، كما أن تَفاقُم المسألة اليهودية مع عقم الحلول الصهيونية المطروحة كانت سبباً آخر. ولعل رفض إحدى مسرحياته عام 1895 له علاقة ما بالموضوع، وهو أمر يَصعُب البت فيه، ولكننا نعرف أن ملامح الحل الصهيوني كانت قد بدأت تختمر حينذاك في عقله وأنه قرَّر في شتاء ذلك العام أن يبدأ جهوده السياسية أو الدبلوماسية، وهي جهود لم تكن بعيدة على كل حال عن جهوده الأدبية، إذ تبدأ اليوميات بالحديث عن الدولة اليهودية كما لو كانت رواية.
وما بين ربيع عام 1895 وشتائه، اختمرت فكرة الدولة اليهودية في عقل هرتزل، ثم قرَّر أن يسجل أفكاره في كتيب ففعل ذلك في خمسة أيام ونشر موجزاً في جويش كرونيكل ثم نشرها في 14 فبراير 1896 بعنوان دولة اليهود: محاولة لحل عصري للمسألة اليهودية وتكمن اهمية الكتاب فى:
أولاً:- إن الكتاب حول المسألة اليهودية من مسألة خاصة إلى قضية سياسية إهتمت بها دول العالم.
ثانياً:- حول الكتاب قضية اليهود من جماعات منعزلة ومنطوية إلى قضية شعب كامل.
ثالثاً:- إعتبر الكتاب بمثابة دليل عملي للحركة الصهيونية التي تمكنت من تنفيذ المشروع بعد موت هرتزل بسنوات.
ملاحظات هامة على كتاب هرتزل:-
أولاً: كان هرتزل حريصاً على عدم إستثارة أهل البلاد في الوطن المرتقب تجنباً لثورتهم، حتى لا يفسدوا الخطة اليهودية، وفعلاً لم يطالب اليهود بإقامة دولة يهودية إلا بعد أن قويت شوكة اليهود، وعلى المستوى العالمي عقد الصهيونيون مؤتمرهم الشهير في فندق بلتمور بمدينة نيويورك في الفترة من 9 مايو إلى 11 مايو 1942 تحت إشراف مجلس الطوارئ الأميركي للشؤون الصهيونية وحضر المؤتمر ستمائة يهودي أميركي وعشرات الصهاينة القادمين من الخارج كما حضره وايزمان وبن غوريون.
ثانياً: إن هرتزل كان يدرك جيداً أن الخطة تقضي باحتلال الأراضي في الوطن الجديد، وليس استعادة الأراضي في فلسطين كما تردد المراجع الصهيونية.
ثالثاً: لا يجد هرتزل غضاضة في الاعتراف بالدولة اليهودية المنتظرة كرأس حربه لأوروبا نظير ضمان أوروبا لوجودها حيث أن اليهود كانوا يعرفون حق المعرفة أنهم غير قادرين – رغم أموالهم وإمكاناتهم على القيام وحدهم ببناء الدولة المنتظرة، وأنه لا بد من الاعتماد على الدول الاستعمارية لدعم قيام هذه الدولة وحمايتها في المستقبل.
رابعاً: لم يكن هنالك اتفاق بين القيادات الصهيونية حول اختيار بلد معين مقراً للدولة اليهودية، وهذا يظهر واضحاً من خلال دعوة هرتزل اختيار فلسطين أو الأرجنتين كمقر للوطن المرتقب.
حيث يتضح من يوميات هرتزل أنه شعر بالندم لعدم تركيزه في كتابه حول فلسطين وحدها.
وهكذا نجد أن تقديرات المستقبل لم تكن مرئية لدى هرتسل عندما ألف كتابه الدولة اليهودية ولم يكن يعرف مدى ترحيب اليهود بأفكاره، كما أنه وجد معارضة لتوجهاته في البداية من بعض كبار الشخصيات اليهودية وأثرياء اليهود.
صحيح أن منظمة (أحباء صهيون) نشأت أساساً في روسيا القيصرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ودعت إلى الهجرة إلى فلسطين، إلا أنها لم تترك أثراً عميقاً في حياة جماهير الطوائف اليهودية وكان من الممكن أن يعد الذين لبوا هذه الدعوة بالعشرات، فجماهير هذه الطوائف في روسيا القيصرية كانت قد إنصبت في موجة الحركة الثورية الناهضة. كذلك عالج القضية اليهودية من منطلقات مماثلة لمنطلقات هرتزل اليهودي الروسي مواطن أودويسا ليو بنسكر ووضع استنتاجاته في كتابة (التحرر الذاتي)، إلا أن دعوته لإقامة دولة يهودية – لا في فلسطين بالضرورة إذا استبعدها واعياً - لم تجد إطاراً تنظيمياً ، وكان يجهلها هرتسل وأولئك الذين أقاموا المنظمة الصهيونية فيما بعد.
ولهذا اقترنت الحركة الصهيونية بهرتزل لأنه قرن الأيديولوجية بالمنظمة الصهيونية التي نشأت بعد المؤتمر الصهيوني العالمي الذي عقد في بال بسويسرا في عام 1897.
وقد ألَّف هرتزل الكتيب بالألمانية ونشر منه بين عامي 1896 و1904 خمس طبعات بالألمانية وثلاثاً بالروسية وطبعتين بكلٍّ من العبرية واليديشية والفرنسية والرومانية والبلغارية. وقد أصر هرتزل على أن يضع لقبه العلمي (دكتوراه في القانون) بجوار اسمه (ليؤكد حداثة حله). والكراسة مكونة من 30 ألف كلمة (وتقع في 65 صفحة في طبعتها الأصلية) وأسلوبها واضح بسيط لا يتسم بأي عمق أو تفلسُف. وقد وصف هرتزل كتابه بأنه ليس حلاًّ وحسب، وإنما هو "الحل الوحيد الممكن". وطالب بألا يُنظَر إليه على أنه يوتوبيا، فهو مشروع محدد قوته الدافعة هي مأساة اليهود الذين يُعامَلون كغرباء، أي أنه من البداية حدَّد مجال اهتمامه فهو ليس إيجابياً (هوية التراث اليهودي) وإنما سلبي (اضطهادهم). والواقع أن سيرة هرتزل بعد ذلك التاريخ هي سيرة الحركة الصهيونية التي كانت تدور حوله بالدرجة الأولى.
ولذا، نزحت الأسرة إلى فيينا عام 1878. وكان عدد اليهود في فيينا آنذاك (1881) لا يزيد على عشرة آلاف يهودي، ولكن تَعثُّر التحديث في شرق أوربا أدَّى إلى دَفْع جحافل اليهود إلى وسط وغرب أوربا بحيث بلغ عددهم عام 1899 ما يزيد على 100 ألف، أي أنهم زادوا عشرة أضعاف خلال أقل من عشرة أعوام.
التحق هرتزل بجامعة فيينا وحصل على دكتوراه في القانون الروماني عام 1884 وعمل بالمحاماة لمدة عام، ولكنه فضل أن يكرس حياته للأدب والتأليف. ومع هذا، ظلت عقليته أساساً عقلية قانونية تعاقدية، فنشر ابتداءً من عام 1885 مجموعة من المقالات، وكتب بعض المسرحيات التي لم تلاق نجاحاً كبيراً من أهمها مسرحية الجيتو الجديد (1894) التي تقدم صورة متعاطفة مع بطلها، إلا أنها تقدم اليهود من خلال الأنماط المعروفة في تراث معاداة اليهود في الغرب. وتنتهي المسرحية بأن يطلب البطل الخروج من الجيتو العقلي المضروب حوله، ولكنه في الوقت نفسه يؤكد استحالة هذه العملية.
ولعل بطل المسرحية يشبه من بعض الوجوه زعماء الحركة الصهيونية في تلك المرحلة، هرتزل وبنسكر ونوردو وجابوتنسكي وغيرهم ممن حاولوا الاندماج في الحضارة الغربية وحاولوا تَرْك تراثهم تماماً ونسيان هويتهم اليهودية (الإثنية والدينية). ولكنهم تصوروا أنهم لم يوفقوا في مساعيهم ولم يتمكنوا من العودة بسبب بعض مظاهر معاداة اليهود أو بسبب تصنيف المجتمع لهم على أنهم يهود.
فهم يهود رغم أنفهم، يهود وغير يهود. وقد وَصَفهم نوردو هم وأمثالهم وصفاً دقيقاً في المؤتمر الصهيوني الأول (1987): "يسرع اليهود المندمجون إلى قَطْع خطوط رجعتهم وذلك بتأثير نشوة وضعهم الجديد. لقد أصبح عندهم الآن بيوت جديدة فلم يعودوا بحاجة إلى عزلتهم. أصبح لديهم الآن معارف جدد، فهم غير مجبرين على العيش مع إخوانهم في الدين، وتحوَّل الشعور بالاختلاف إلى تعمُّد التقليد الأعمى". لقد فقد هؤلاء المندمجون هويتهم الإثنية وهويتهم الدينية "لقد فقدوا ذلك الإيمان الذي قد يساعدهم على تحمُّل العذاب واعتباره مجرد قصاص من الإله، كما فَقَدوا الأمل في مجيء الماشيَّح الذي سيوجههم إلى المجد في يوم عجيب". وكلما حاولوا التهرب من اليهودية حتى عن طريق التنصُّر، تدفع بهم معاداة اليهود بعيداً عن هدفهم. ولذا، فإنهم يصبحون "المارانو الجدد" أي مسيحيون من الخارج يهود من الداخل. ولكن منطق نوردو نفسه يجعلنا نعتقد أن يهوديتهم الداخلية ضعيفة هامشية، تماماً مثل يهودية المارانو.
في عام 1889، تزوج هرتزل من جولي نتشاور وكانت من أسرة ثرية كان يأمل هرتزل أن يحل من خلالها بعض مشاكله المالية. ولكن الزواج لم يكن موفقاً بسبب ارتباط هرتزل الشديد بأمه التي غذت أحلامه، فقد قامت نشأته على تصوُّر من ينتدب نفسه لتحقيق عظائم الأمور ويحلم بأنه صاحب رسالة في الحياة. ويبدو أن مما عقَّد الأمور، عدم حماس الزوجة للتطلعات الصهيونية لدى زوجها. ولعل مشاكل هرتزل الجنسية لعبت دوراً في ذلك، إذ يبدو أنه أصيب بمرض سري (شأنه شأن نيتشه معاصره) وتنقَّل في عدة مصحات للاستشفاء من هذا المرض.
وفي عام 1891، التحق هرتزل بصحيفة نويا فرايا براسا أوسع الصحف النمساوية انتشاراً، وأُرسل إلى باريس للعمل مراسلاً للصحيفة هناك (حتى عام 1895) حينما عُيِّن رئيساً لتحرير القسم الأدبي في الصحيفة وبقى في عمله حتى وفاته.
وهنا قد يكون من المفيد التوقف قليلاً للتحدث عن هوية هرتزل التي كانت تقف بين عدة انتماءات دينية إثنية متنوعة (ألمانية ـ مجرية ـ يهودية ـ بل مسيحية) دون أن ينتمي لأيٍّ منها أو يُستوعَب فيها. فإذا نظرنا لانتمائه اليهودي، فإننا نجد أنه يرفض الدين اليهودي والتقاليد الدينية اليهودية. والواقع أن زوجته كان مشكوكاً في يهوديتها، وقد رفض حاخام فيينا إتمام مراسم الزواج. كما أن هرتزل لم يختن أولاده ولم يكن الطعام الذي يُقدَّم في بيته «كوشير»، أي مباحاً شرعاً. أما تَصوُّره للإله، فلم يكن يستند إلى العقيدة اليهودية بقدر استناده إلى فلسفة إسبينوزا بنزعته الحلولية التي توحِّد الإله والطبيعة، فهي حلولية وحدة الوجود أو حلولية بدون إله (وقد طُرد إسبينوزا نفسه من حظيرة اليهودية ولم يَتبنَّ ديناً آخر، ولهذا فإنه يُعَدُّ أول يهودي إثني في العصر الحديث). وقد تأثر هرتزل بتعاليم شبتاي تسفي الماشيَّح الدجال وظل مشغولاً به وبأحداث حياته.
أما من الناحية الثقافية، فإن هرتزل كان ابن عصره، يجيد الألمانية والمجرية والإنجليزية والفرنسية. ويبين أحد مؤرخي الحركة الصهيونية أن اتخاذ هرتزل دور الداندي (أي الوجيه الذي يبالغ في الأناقة) وتَظاهُره بأنه من الأرستقراطيين هو القناع الذي كان يختبئ وراءه ليهرب من هويته اليهودية. وكان هرتزل لا يعرف العبرية، وقد تساءل علناً وبسخرية (في المؤتمر الصهيوني الثالث [1899]) عما يُسمَّى «الثقافة اليهودية».
وحينما قرَّر مجاملة حاخامات مدينة بازل، اضطر إلى تأدية الصلاة في كنيس المدينة قبيل افتتاح المؤتمر الصهيوني الأول (1897)، كما اضطر إلى تعلُّم بضع كلمات عبرية لتأدية الصلاة. وكان المجهود الذي بذله في تعلُّمها أكبر من المجهود الذي بذله في إدارة جلسات المؤتمر بأسرها (حسب قوله). ومما له دلالة عميقة أن هرتزل كان يرى أنه دزرائيلي يهودي، ودزرائيلي هو اليهودي المُتنصِّر الذي دخل عالم الغرب من خلال باب غربي وبشروط غربية بعد أن تخلَّى عن يهوديته أو الجزء الأكبر منها. أما هرتزل فقد فعل مثله تماماً باستثناء التخلي عن القشرة اليهودية المتبقية.
ولكن، ورغم ابتعاده عن الثقافة اليهودية، نجده متأثراً بعقيدة الماشيَّح المخلّص، ونجد أن ذكرها يتواتر في مراسلاته ومذكراته بأسلوب ينم عن الإيمان بها وإن كان الأمر لا يخلو من السخرية منها في آن واحد.وكان اهتمامه ينصب على الماشيَّح الدجال شبتاي تسفي. وقد استخدم هرتزل كلمة «الخروج» التوراتية ليشير إلى مشروعه الاستيطاني، الأمر الذي يدل على أن الأسطورة التوراتية كانت تشكل جزءاً من إطاره الإدراكي. وتتداخل الأساطير الحديثة مع الأساطير اليهودية، ونجده يعتبر أن فرديناند ديليسبس مَثَله الأعلى في الحياة، ونجده يرى أن الكهرباء هي الماشيَّح المنتظر (وهذا امتداد لرؤية إسبينوزا للإله). لكل ذلك، لا يمكن القول بأنه كان يهودياً حقاً (كما هو الحال مع حاخامات الحسيديين مثلاً) ولا حتى بالمعنى الإثني (كما هو الحال مع وايزمان وآحاد هعام)، ولا هو مندمج تماماً (كما هو الحال مع إدوين مونتاجو وأثرياء يهود إنجلترا)، فهو مُعلَّق في الهواء في منطقة حدودية تلتقي فيها الحلولية الكمونية اليهودية بالحلولية الكمونية العلمانية.
هذه الهوية الهامشية التي تقف على حافة الهويات الأخرى كانت أمراً مقبولاً حسب تعريف الهوية في الإمبراطورية النمساوية/ المجرية، فهو تعريف لم يكن محدداً أو ضيقاً وإنما كان (كما هو الحال دائماً مع الإمبراطوريات) تعريفاً رحباً سمحاً يسمح بتعايش التناقضات. ولهذا، فقد كان من الممكن أن يسمح بوجود مثل هذه الشخصية التي لا تنتمي لليهودية من الناحية الدينية أو الإثنية. ومع هذا، كان بإمكانه التحدث عن نفسه كيهودي دون أن يثير الضحك، كما كان بإمكانه أن يتحدث عن القومية اليهودية والانفصال اليهودي (وقد كان هو شخصياً يتمتع بالاندماج)
ولعل هامشية الانتماء الحضاري هذا يفسر جانباً آخر من شخصية هرتزل وهو ذكاؤه الحاد وسطحيته الشديدة. وقد وَصَفه مؤرخ الصهيونية وولتر لاكير بأن تفكيره يتصف بالتبسيط الشديد. ووَصَفه مؤرخ آخر هو حاييم فيتال، في أكثر من مكان، بأنه ذكي دون أن يكون عميقاً، وأنه لم يكن يدرك كثيراً من الأبعاد السياسية لعصره. أما شلومو أفنيري، فيرى أن كتاباته قد تكون متألقة لامعة ولكنها ينقصها العمق الروحي، كما تحدَّث عن "الجانب الخفيف" في طبيعته، أي سطحيته.
ويطرح السؤال نفسه: كيف تتمكن شخصية هامشية سطحية (رغم كل ذكائها)، شخصية لم يكن عندها مصادر مالية، تقف ضدها كل المؤسسات الدينية والمالية اليهودية ولم يكن لديها تنظيم، أن تفرض نفسها بهذا الشكل؟
يفسر أحد مؤرخي الحركة الصهيونية (شلومو أفنيري) هذه الأعجوبة بسببين أولهما: كفاح هرتزل البطولي الذي يكاد يكون جنونياً، وثانيهما: اكتشافه الرأي العام العالمي وألاعيب الإعلام. بل يضيف قائلاً: "إن المشروع الصهيوني قد نجح إلى حدٍّ كبير، حتى الوقت الحاضر، في الوقوف ضد قوة السياسة والتاريخ"، بسبب الرأي العام. ولعل هذا قد يفسر بعض أسرار نجاح هرتزل، ولكنه لا يصلح بأية حال لتفسير نجاحه في تَخطِّي الحاخامات والأثرياء وجمعيات أحباء صهيون وأن يفرض نفسه فرضاً على الجميع ويتحدث باسم يهود أوربا الذين لم يعطوه الصلاحية لأن يفعل ذلك.
ولكننا نعتقد أن نجاحه يكمن في نقط قصوره وهامشيته وذكائه السطحي، إذ تضافرت هذه العوامل وجعلته قادراً على أن يصل إلى الصيغة التي تفتح الطريق المسدود الذي كانت الصهيونية (بشقيها اليهودي وغير اليهودي) قد دخلته. فهامشيته جعلته قادراً على أن ينظر مثلاً لليهود من الخارج على طريقة العالم الغربي «كمادة بشرية» (المصطلح الذي استخدمه في دولة اليهود) يجب التخلص منها أو توظيفها. ولذا، فإن اهتمامه باليهود كان اهتماماً غربياً. ولعل هذا يفسر أن الحلول الأولى التي طرحها للمشكلة اليهودية تتسم بكثير من السوقية الفظة، كأن يقترح تعميد اليهود في كاتدرائية القديس بول في روما.
وكما بيَّنا من قبل، لم يكن هرتزل يعرف شيئاً عن عالم اليهود ولكنه كان يعرف بعض الشيء عن شخصيات الاستعمار الغربي مثل بنجامين دزرائيلي وسيسل روديس وهنري ستانلي، وعن موازين القوى وعن رجل أوربا المريض وعن التشكيل الاستعماري الغربي.
ورغم كل هذا ورغم إعجابه الشديد بمؤسسات الحضارة الغربية، ابتداءً من العقلية الألمانية وانتهاءً بالمشروع الاستعماري والتكنولوجيا الغربية، إلا أنه اكتشف أن هذه الحضارة قد أوصدت أبوابها دونه أو على الأقل دون الاندماج التام الذي كان يطمح إليه، فتعرَّض لتمييز عنصري ولسخرية لأنه يهودي، فتذكرة الدخول للحضارة الغربية والاندماج الكامل فيها كان لا يزال اعتناق المسيحية (كما اكتشف هايني). ولعل انتماءه إلى جماعة شبابية للمبارزة، وهي جماعة ذات مُثُل قومية ألمانية عضوية، دليل على حرصه على الانتماء الألماني. ولكن الجمعية اتخذت قراراً عام 1881 بعدم ضم أعضاء يهود جدد فقرر الاستقالة احتجاجاً على القرار (ولكن مما له دلالته أن صاحب الاقتراح كان هو نفسه شخصية هامشية، فهو نمساوي من أصل يهودي).
إن هرتزل بهذا المعنى مثال جيد على «اليهودي غير اليهودي»، ولذا كان بإمكانه أن يلعب دور الجسر الموصل، فينظر إليه الغرب على أنه رسولهم إلى اليهود وينظر إليه اليهود على أنه رسولهم للغرب. وهو شخصية هامشية حدودية يستطيع الغرب أن يراه على أنه اليهودي الذي يحمل مُثلاً غربية لليهود فيُفهِّمهم ويساعدهم، وبإمكان اليهود أن يروه الغربي الذي يفهم المسألة اليهودية من الداخل ويعاني منها معهم ويمكن أن يشرح حالتهم للعالم الغربي.
ومما له دلالته أن هرتزل لم يكن يُفرِّق بين صهيونية غير اليهود وصهيونية اليهود، فهو في مذكراته يَقرن موسى هس بدزرائيلي بجورج إليوت كممثلين للفكرة الصهيونية. وإذا قرنَّا كل ذلك بجهله بفكر "رجل يُدعى بنسكر" كان يعيش في أوديسا بل بكل ما هو يهودي، لأصبح من الممكن أن نتحدث عنه باعتباره نتاج صهيونية غير اليهود وأن أصوله اليهودية مسألة عرضية.
وقد ظهر هرتزل في مرحلة كانت صهيونية غير اليهود وصهيونية شرق أوربا فيها قد دخلت طريقاً مسدوداً، فالفريق الأول كان ينظر لليهود من الخارج وكان الثاني لا ينظر إلى الخارج أبداً، أما هو فيهودي غربي، أو إن أردنا الدقة لا هو من شرقها ولا هو من غربها وإنما من وسطها، يقف بين شرقها المتعثر وغربها المندمج. ورغم أنه يهودي كُتب عليه المصير اليهودي، إلا أنه كان كصحفي نمساوي يتحرك بكفاءة في الأوساط الغربية كما كان يتحدث لغتها. وقد قال هو نفسه إنه "تعلَّم في باريس كيف يدار العالم". وكان قد ذهب إلى باريس وعمره 31 عاماً وتركها وعمره 35 عاماً.
وقد كانت جماهير شرق أوربا تنظر إليه لا باعتباره من وسط أوربا وإنما باعتباره غربياً، واعتُبرت عودته لها إحدى علامات آخر الأيام. وقد عبَّر وايزمان عن هذا الإحساس خير تعبير، بأسلوبه المتورم دائماً حين قال: "أتى هرتزل من عالم غريب لم نعرفه فركعنا أمام النسر الذي جاء من تلك البلاد [ولنلاحظ الصورة الوثنية هنا، فالنسر علامة القوة ورمز عالم الأغيار بكل تأكيد]. ولو أن هرتزل قد تتلمذ في مدرسة دينية (حيدر) لما تبعه أحد من اليهود [يعني يهود شرق أوربا] لقد سحر اليهود لأنه ظهر في قلب الثقافة الأوربية".
ولكن هرتزل عاد إلى الشرق بشروطه الغربية، عاد ليُخرج يهود اليديشية من نطاق يهوديتهم التقليدية، أو كما قال نوردو "ليُخرج كل جهودهم الصهيونية من إطار الكنيس والاجتهادات الدينية"، لقد عاد كما عاد هس من قبله وكما يفعل الصهاينة من بعده.
ولا ندري بالضبط سبب العودة التي تبدو فجائية، ولكننا نعتقد كما ذكرنا أن الهامشية كانت بكل تأكيد أحد الأسباب التي أهلته للعودة، كما أن تَفاقُم المسألة اليهودية مع عقم الحلول الصهيونية المطروحة كانت سبباً آخر. ولعل رفض إحدى مسرحياته عام 1895 له علاقة ما بالموضوع، وهو أمر يَصعُب البت فيه، ولكننا نعرف أن ملامح الحل الصهيوني كانت قد بدأت تختمر حينذاك في عقله وأنه قرَّر في شتاء ذلك العام أن يبدأ جهوده السياسية أو الدبلوماسية، وهي جهود لم تكن بعيدة على كل حال عن جهوده الأدبية، إذ تبدأ اليوميات بالحديث عن الدولة اليهودية كما لو كانت رواية.
وما بين ربيع عام 1895 وشتائه، اختمرت فكرة الدولة اليهودية في عقل هرتزل، ثم قرَّر أن يسجل أفكاره في كتيب ففعل ذلك في خمسة أيام ونشر موجزاً في جويش كرونيكل ثم نشرها في 14 فبراير 1896 بعنوان دولة اليهود: محاولة لحل عصري للمسألة اليهودية وتكمن اهمية الكتاب فى:
أولاً:- إن الكتاب حول المسألة اليهودية من مسألة خاصة إلى قضية سياسية إهتمت بها دول العالم.
ثانياً:- حول الكتاب قضية اليهود من جماعات منعزلة ومنطوية إلى قضية شعب كامل.
ثالثاً:- إعتبر الكتاب بمثابة دليل عملي للحركة الصهيونية التي تمكنت من تنفيذ المشروع بعد موت هرتزل بسنوات.
ملاحظات هامة على كتاب هرتزل:-
أولاً: كان هرتزل حريصاً على عدم إستثارة أهل البلاد في الوطن المرتقب تجنباً لثورتهم، حتى لا يفسدوا الخطة اليهودية، وفعلاً لم يطالب اليهود بإقامة دولة يهودية إلا بعد أن قويت شوكة اليهود، وعلى المستوى العالمي عقد الصهيونيون مؤتمرهم الشهير في فندق بلتمور بمدينة نيويورك في الفترة من 9 مايو إلى 11 مايو 1942 تحت إشراف مجلس الطوارئ الأميركي للشؤون الصهيونية وحضر المؤتمر ستمائة يهودي أميركي وعشرات الصهاينة القادمين من الخارج كما حضره وايزمان وبن غوريون.
ثانياً: إن هرتزل كان يدرك جيداً أن الخطة تقضي باحتلال الأراضي في الوطن الجديد، وليس استعادة الأراضي في فلسطين كما تردد المراجع الصهيونية.
ثالثاً: لا يجد هرتزل غضاضة في الاعتراف بالدولة اليهودية المنتظرة كرأس حربه لأوروبا نظير ضمان أوروبا لوجودها حيث أن اليهود كانوا يعرفون حق المعرفة أنهم غير قادرين – رغم أموالهم وإمكاناتهم على القيام وحدهم ببناء الدولة المنتظرة، وأنه لا بد من الاعتماد على الدول الاستعمارية لدعم قيام هذه الدولة وحمايتها في المستقبل.
رابعاً: لم يكن هنالك اتفاق بين القيادات الصهيونية حول اختيار بلد معين مقراً للدولة اليهودية، وهذا يظهر واضحاً من خلال دعوة هرتزل اختيار فلسطين أو الأرجنتين كمقر للوطن المرتقب.
حيث يتضح من يوميات هرتزل أنه شعر بالندم لعدم تركيزه في كتابه حول فلسطين وحدها.
وهكذا نجد أن تقديرات المستقبل لم تكن مرئية لدى هرتسل عندما ألف كتابه الدولة اليهودية ولم يكن يعرف مدى ترحيب اليهود بأفكاره، كما أنه وجد معارضة لتوجهاته في البداية من بعض كبار الشخصيات اليهودية وأثرياء اليهود.
صحيح أن منظمة (أحباء صهيون) نشأت أساساً في روسيا القيصرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ودعت إلى الهجرة إلى فلسطين، إلا أنها لم تترك أثراً عميقاً في حياة جماهير الطوائف اليهودية وكان من الممكن أن يعد الذين لبوا هذه الدعوة بالعشرات، فجماهير هذه الطوائف في روسيا القيصرية كانت قد إنصبت في موجة الحركة الثورية الناهضة. كذلك عالج القضية اليهودية من منطلقات مماثلة لمنطلقات هرتزل اليهودي الروسي مواطن أودويسا ليو بنسكر ووضع استنتاجاته في كتابة (التحرر الذاتي)، إلا أن دعوته لإقامة دولة يهودية – لا في فلسطين بالضرورة إذا استبعدها واعياً - لم تجد إطاراً تنظيمياً ، وكان يجهلها هرتسل وأولئك الذين أقاموا المنظمة الصهيونية فيما بعد.
ولهذا اقترنت الحركة الصهيونية بهرتزل لأنه قرن الأيديولوجية بالمنظمة الصهيونية التي نشأت بعد المؤتمر الصهيوني العالمي الذي عقد في بال بسويسرا في عام 1897.
وقد ألَّف هرتزل الكتيب بالألمانية ونشر منه بين عامي 1896 و1904 خمس طبعات بالألمانية وثلاثاً بالروسية وطبعتين بكلٍّ من العبرية واليديشية والفرنسية والرومانية والبلغارية. وقد أصر هرتزل على أن يضع لقبه العلمي (دكتوراه في القانون) بجوار اسمه (ليؤكد حداثة حله). والكراسة مكونة من 30 ألف كلمة (وتقع في 65 صفحة في طبعتها الأصلية) وأسلوبها واضح بسيط لا يتسم بأي عمق أو تفلسُف. وقد وصف هرتزل كتابه بأنه ليس حلاًّ وحسب، وإنما هو "الحل الوحيد الممكن". وطالب بألا يُنظَر إليه على أنه يوتوبيا، فهو مشروع محدد قوته الدافعة هي مأساة اليهود الذين يُعامَلون كغرباء، أي أنه من البداية حدَّد مجال اهتمامه فهو ليس إيجابياً (هوية التراث اليهودي) وإنما سلبي (اضطهادهم). والواقع أن سيرة هرتزل بعد ذلك التاريخ هي سيرة الحركة الصهيونية التي كانت تدور حوله بالدرجة الأولى.
الأربعاء يونيو 22, 2016 6:44 pm من طرف khaled
» القضاء الاداري يصدر حكما بإلغاء اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية
الثلاثاء يونيو 21, 2016 5:25 pm من طرف khaled
» جبتلكو سلسلة رويات رجل المستحيل المعروفة للتحميل المباشر
الإثنين ديسمبر 28, 2015 5:53 pm من طرف abazer
» العلاقات المصرية السودانية في عهد محمد علي وخلفاؤه
الجمعة يناير 17, 2014 10:28 am من طرف khaled
» انجولا وحظر الاسلام (1)
الخميس نوفمبر 28, 2013 12:21 pm من طرف Ibrahimovech
» التفسير الاقتصادي للتاريخ
الأربعاء يونيو 19, 2013 1:34 am من طرف khaled
» كرسي العناد ........ السلطة سابقا
الثلاثاء يناير 29, 2013 5:56 pm من طرف khaled
» جمهورية جزر القُمر الاسلامية الفيدرالية دراسة جغرافية
الأحد يناير 06, 2013 2:21 am من طرف khaled
» بعض الفروق السياسية بين المجلس العسكري الي حكم مصر بعد الثورة وبين الاخوان لما وصلوا للحكم
الأربعاء نوفمبر 28, 2012 6:14 pm من طرف khaled