2 ـ نَفْع اليهود والحل الإمبريالي.
إذا كان اليهود شعباً عضوياً منبوذاً، فإن أوربا منذ عصر النهضة اكتشفت نَفْع اليهود وإمكانية حوسلتهم لصالح الحضارة الغربية، وهذا ما يفعله هرتزل في دولة اليهود. فهو أيضاً يكتشف إمكانية نفع اليهود وتوظيفهم لصالح أي راع إمبريالي يقوم بوضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ.
ويبدو أن هرتزل كان يرفض في بادئ الأمر «الخروج» على الطريقة الصهيونية الاستيطانية، شأنه في هذا شأن يهود الغرب المندمجين. وقد نشر في المجلة التي كان يكتب فيها عام 1892 تقارير تفصيلية عن أحوال الاستيطان اليهودي في الأرجنتين. وقد سافر زميل له مندوباً عن يهود برلين (الذين أخافهم وصول يهود اليديشية، تماماً كما أخاف ذلك يهود فيينا) ليَدرُس احتمالات توطين اليهود في البرازيل. كما كان هرتزل يعرف عن مشروع توطين اليهود في الساحل الشمالي الغربي في الجزيرة العربية (الأحساء)، فكتب مقالاً عام 1892 يرفض فيه فكرة عودة اليهود إلى فلسطين وقال: "إن الوطن التاريخي لليهود لم يَعُد ذا قيمة بالنسبة لهم، ومن الطفولي أن يستمر اليهودي في البحث عن موقع جغرافي لوطنه". كما سخر في مقال له من إحدى مسرحيات ألكسندر دوماس لما تحتويه من أفكار وحلول صهيونية. ولكن هذا كان قبل أن يكتشف الاستعمار الغربي.
ويجب ألا ننسى أن عملية التحديث في الغرب متلازمة تماماً مع العملية الاستعمارية، ولا يمكن فصل الواحدة عن الأخرى. فتراكم رؤوس الأموال الذي يُسمَّى «التراكم الرأسمالي» الذي جعل تشييد البنية التحتية الهائلة في الغرب ممكناً، هو في واقع الأمر «تراكم إمبريالي»، فهو نتاج العملية الاستعمارية التي بدأت بالاحتكار المركنتالي وانتهت بالتقسيم الإمبريالي للعالم. كما أن كثيراً من مشاكل التحديث الغربية من بطالة وانفجار سكاني وسلع زائدة، تم حلها عن طريق الاستعمار، أي عن طريق تصديرها للشرق، واكتشاف هرتزل الطريقة الغربية الإمبريالية الحديثة لحل المشاكل، أي تصديرها وفَرْضها بالقوة على الآخر، يشكل الانتقال النوعي في فكره وحياته.
قبل أن يطرح هرتزل حله، وجَّه نقداً للمحاولات الاستيطانية الصهيونية في عصره (محاولة التسلليين من شرق أوربا بدعم أثرياء الغرب المندمجين) ووصفها بأنها رومانسية مستحيلة دخلت طريقاً مسدوداً. ثم ينتقل هرتزل بعد ذلك فيرفض الفكر المركنتالي الذي يدَّعي أن هناك قيمة محددة في حالة توزيع دائم، ويؤكد بدلاً من ذلك أن العصر الصناعي الرأسمالي والتقدم الفني يؤدي إلى خلق القيم الجديدة المستمرة ويسمح بالتوسع الدائم. ثم يطرح هرتزل رؤيته القائلة بأن ثمة تقدماً هائلاً ودائماً في جميع مجالات الحياة فهناك "سفن تجارية تحملنا بسرعة وأمان عبر البحار الواسعة" و"القطارات تحمل الإنسان عبر جبال العالم، فالمساحات الشاسعة لا تُشكِّل عائقاً الآن. ومع هذا، فنحن نتذمر من مشكلة تكاثُف السكان (وخصوصاً اليهود). إن الانقلاب الصناعي وحركة المواصلات يمكنها أن تحل مشاكل الإنسان [الغربي] ومن بينها المسألة اليهودية". وعبارة «الانقلاب الصناعي وحركة المواصلات» البريئة تعني في واقع الأمر الانقلاب الإمبريالي الذي هيمن على العالم، والذي أمكنه، من خلال الاستعمار الاستيطاني، حل "مشكلة تكاثف السكان".
وبعد أن أكد هرتزل للدول الغربية أن نَقْل الشعب العضوي المنبوذ هو الحل المطروح، فإنه يبين لهم منافع الحل الصهيوني المطروح. فبالنسبة للدولة الراعية، ستكون الهجرة هجرة فقراء وحسب، ولذا فإنها لن تؤثر على اقتصادها. كما أن الخروج سيتم تدريجياً، دون أي تعكير، وستستمر الهجرة من ذلك البلد حسب رغبة ذلك البلد في التخلص من اليهود. كما أنه يذكر بشيء من التفصيل الثمن الذي سيدفعه اليهود (الدور الذي سيلعبونه والوظيفة التي سيؤدونها) ومدى نفعهم للراعي الاستعماري الذي سيضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ:
أ) ومن الجدير بالذكر أن الحكومات المعنية ستستفيد من هذه الهجرة استفادة كبيرة.
ب) ولو كانت الحكومات المعنية هي السلطان العثماني، فإن الفوائد تكون بالغة الكثرة:
ـ فلو يعطينا جلالة السلطان فلسطين لكنا نأخذ على عاتقنا مقابل ذلك إدارة مالية تركية كاملة.
ـ ستستفيد هذه السلطات بالمقابل إذ أنها ستدفع قسطاً من دينها العام وستقيم مشاريع نحتاج إليها نحن أيضاً.
ـ يمكن وضع النفوذ الصهيوني في خدمة السلطان، كأن تقام حملة صحفية ضد الأرمن الذين كانوا يسببون له المتاعب.
ـ ويمكن أن يؤسِّس الصهاينة جامعة في إستنبول لإبعاد الشباب التركي عن التيارات الثورية في الغرب.
ـ وأخيراً، فإن هجرة اليهود ستبعث "القوة في الإمبراطورية العثمانية كلها" وهو مطلب ألماني إنجليزي في ذلك الوقت (ضد الزحف الروسي)
جـ) أما لو تم اختيار الأرجنتين كموقع للاستيطان، فمن مصلحتها أيضاً أن تقبلنا في أراضيها.
د) وسواءٌ تم التهجير إلى الأرجنتين أو إلى فلسطين أو أية منطقة أخرى، فإن فكرة خَلْق دولة يهودية أمر مفيد للأراضي المجاورة، ذلك لأن استثمار قطعة أرض ضيقة يرفع قيمة المناطق المجاورة، وستبعث هجرة اليهود قوة في تلك الأراضي الفقيرة.
هـ) ولأن هرتزل كما بيَّنا كان يعرف أن الحكومات المعنية هي في الواقع القوى الغربية، لذلك فهو يقدم لهم قائمة كاملة شاملة:
ـ بهذا الخروج ستكون نهاية فكرة معاداة اليهود، وبالتالي لن يحس الغرب الليبرالي بالحرج بسبب عنصريته الواضحة.
ـ ومما لا شك فيه أن الدول الغربية ستجني فوائد أخرى مثل تخفيف حدة الانفجار السكاني، كما ستفيد من كل المشاكل الناجمة عن وجود شعب عضوي غريب.
ـ وفي تحليله أسباب معاداة اليهود، قال هرتزل: "عندما نسقط نصبح بروليتاريا ثورية، نقود كل حزب ثوري، وعندما نصعد تصعد معنا قوتنا المخيفة"، ولذا فإن الصهيونية ستقوم بتخليص الغرب من أحد العناصر الثورية بتسريب طاقتها الثورية في القنوات الصهيونية.
و) ولكن أهم منافع الصهيونية أنها ستُحوِّل المادة البشرية اليهودية إلى عملاء للدولة الغربية مانحة السيادة ويأخذ هذا أشكالاً كثيرة:
ـ فبالنسبة للصهاينة الاستيطانيين: يمكن حل المسألة الشرقية والمسألة اليهودية في آن واحد. وسوف يكون لهذا الحل تأثير في العالم المتحضر [الغربي] بأسره ويكون ذلك بأن "يقام هناك [في فلسطين] حائط لحماية أوربا وآسيا [دولة وظيفية] يكون بمنزلة حصن منيع للحضارة في وجه الهمجية. ويتوجب علينا كدولة محايدة أن نبقى على اتصال مع أوربا التي ستضمن وجودنا بالمقابل". وهو يرجو أن تدرك إنجلترا مدى القيمة والفائدة التي ستعود عليها من وراء كَسْبها الشعب اليهودي.
ـ ولا ندري هل أدرك هرتزل منذ البداية الإستراتيجية الصهيونية الحالية الرامية إلى تفتيت الشرق العربي إلى جماعات دينية وإثنية، فهو يقول: "إن تَحسُّن وضع اليهود سيساعد على تَحسُّن وضع مسيحيي الشرق". فهو بعد أن ربط مصير اليهود بالغرب، يرى إمكانية طرح السيناريو نفسه بالنسبة لمسيحيي الشرق.
ـ أما بالنسبة لليهود الذين يمكثون خارج فلسطين (الصهاينة التوطينيون)، فيمكن تحويلهم إلى عملاء للدولة مانحة السيادة، فتحصل إنجلترا على عشرة ملايين عميل يضعون أنفسهم في خدمة جلالها ونفوذها.
وانطلاقاً من كل هذا، يطرح هرتزل الحل: "يجب ألا يأخذ الخروج شكل هروب أو تسلُّل، وإنما يجب أن يتم بمراقبة الرأي العام [الغربي]. هذا ويجب أن تتم الهجرة وفقاً للقوانين وبمعاونة صادقة من الحكومات المعنية [الغربية طبعاً] التي يجب أن تضمن وجودنا لأن اليهود لا يمكنهم أن يفعلوا ذلك بأنفسهم". وهكذا رفض هرتزل تماماً فكرة الانعتاق الذاتي باعتباره حلماً رومانسياً، وطرح حتمية الاعتماد على الإمبريالية (وهذا هو مربط الفرس الذي لم يتنبه إليه أي مفكر صهيوني آخر من قبله). ولذا، فإن القول بأن أفكار هرتزل كانت كلها في كتابات أحباء صهيون قول صادق وكاذب في آن واحد! صادق إذا ما فتَّتنا الأفكار إلى وحدات صغيرة، مثل: فكرة الدولة اليهودية، فكرة وطن قومي لليهود، فكرة الاستيطان... إلخ، ولكنه كاذب إذا ما نظرنا إلى البنية الكامنة أو إلى الإطار الكلي المبتكر.
وعندما تتضح الأمور عند هرتزل، فإنه يتقدم بمطالبه للحكومات الغربية المعنية.. "امنحونا سلطة على قطعة من الأرض في هذا العالم [غير الغربي] تكفي حاجاتنا القومية المشروعة، ونحن سنعمل ما يتبقى". ويكرر هرتزل الفكرة نفسها في موضع آخر "متى أظهرت القوى الدولية [الغربية] رغبة في مَنْحنا السلطة فوق قطعة أرض محايدة [أي خارج أوربا] ستعمل جمعية اليهود مع السلطات الموجودة في تلك الأراضي [أي الدولة العثمانية أو الحكومة الأرجنتينية أو غيرها من الدول] وتحت إشراف القوى الأوربية [المصدر الوحيد للسلطة]".
وبهذا، يكون هرتزل قد قدَّم الحل: دولة يهودية ذات سيادة تُؤسِّس خارج أوربا، مصدر سيادتها هو العالم الغربي، أي أنه سيحقق السيادة من خلال العمالة للقوى العظمى الغربية صاحبة القرار في العالم في ذلك الوقت. وهو بذلك قد توصَّل للآلية الكبرى لتنفيذ المشروع الصهيوني وهي الإمبريالية، وللإطار الأمثل وهو الدولة الوظيفية التي سيتم توظيف اليهود من خلالها لصالح العالم الغربي. بل ستُحل مشكلة الهوية اليهودية حلاًّ عبقرياً، فهو يُخرج اليهود من التشكيل القومي الغربي، ويُخلِّص الغرب منهم، ولكنه يُدخلهم الغرب مرة أخرى عن طريق التشكيل الاستعماري الغربي، إذ يبدو أن الدولة الوظيفية سيتم استيعابها في الحضارة الغربية وتصبح دولة مثل كل الدول الغربية. إن الغرب العنصري (ويهود الغرب المندمجين) لم يكونوا على استعداد لتقبُّل الشعب اليهودي العضوي المنبوذ داخل الغرب، ولكن مَنْ الذي يمكنه أن يرفض الشعب اليهودي العضوي الذي يحقق هويته اليهودية هناك بعيداً عن الغرب، داخل دولة وظيفية تقوم على خدمته وتظل تربطه به علاقة؟
إذا كان اليهود شعباً عضوياً منبوذاً، فإن أوربا منذ عصر النهضة اكتشفت نَفْع اليهود وإمكانية حوسلتهم لصالح الحضارة الغربية، وهذا ما يفعله هرتزل في دولة اليهود. فهو أيضاً يكتشف إمكانية نفع اليهود وتوظيفهم لصالح أي راع إمبريالي يقوم بوضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ.
ويبدو أن هرتزل كان يرفض في بادئ الأمر «الخروج» على الطريقة الصهيونية الاستيطانية، شأنه في هذا شأن يهود الغرب المندمجين. وقد نشر في المجلة التي كان يكتب فيها عام 1892 تقارير تفصيلية عن أحوال الاستيطان اليهودي في الأرجنتين. وقد سافر زميل له مندوباً عن يهود برلين (الذين أخافهم وصول يهود اليديشية، تماماً كما أخاف ذلك يهود فيينا) ليَدرُس احتمالات توطين اليهود في البرازيل. كما كان هرتزل يعرف عن مشروع توطين اليهود في الساحل الشمالي الغربي في الجزيرة العربية (الأحساء)، فكتب مقالاً عام 1892 يرفض فيه فكرة عودة اليهود إلى فلسطين وقال: "إن الوطن التاريخي لليهود لم يَعُد ذا قيمة بالنسبة لهم، ومن الطفولي أن يستمر اليهودي في البحث عن موقع جغرافي لوطنه". كما سخر في مقال له من إحدى مسرحيات ألكسندر دوماس لما تحتويه من أفكار وحلول صهيونية. ولكن هذا كان قبل أن يكتشف الاستعمار الغربي.
ويجب ألا ننسى أن عملية التحديث في الغرب متلازمة تماماً مع العملية الاستعمارية، ولا يمكن فصل الواحدة عن الأخرى. فتراكم رؤوس الأموال الذي يُسمَّى «التراكم الرأسمالي» الذي جعل تشييد البنية التحتية الهائلة في الغرب ممكناً، هو في واقع الأمر «تراكم إمبريالي»، فهو نتاج العملية الاستعمارية التي بدأت بالاحتكار المركنتالي وانتهت بالتقسيم الإمبريالي للعالم. كما أن كثيراً من مشاكل التحديث الغربية من بطالة وانفجار سكاني وسلع زائدة، تم حلها عن طريق الاستعمار، أي عن طريق تصديرها للشرق، واكتشاف هرتزل الطريقة الغربية الإمبريالية الحديثة لحل المشاكل، أي تصديرها وفَرْضها بالقوة على الآخر، يشكل الانتقال النوعي في فكره وحياته.
قبل أن يطرح هرتزل حله، وجَّه نقداً للمحاولات الاستيطانية الصهيونية في عصره (محاولة التسلليين من شرق أوربا بدعم أثرياء الغرب المندمجين) ووصفها بأنها رومانسية مستحيلة دخلت طريقاً مسدوداً. ثم ينتقل هرتزل بعد ذلك فيرفض الفكر المركنتالي الذي يدَّعي أن هناك قيمة محددة في حالة توزيع دائم، ويؤكد بدلاً من ذلك أن العصر الصناعي الرأسمالي والتقدم الفني يؤدي إلى خلق القيم الجديدة المستمرة ويسمح بالتوسع الدائم. ثم يطرح هرتزل رؤيته القائلة بأن ثمة تقدماً هائلاً ودائماً في جميع مجالات الحياة فهناك "سفن تجارية تحملنا بسرعة وأمان عبر البحار الواسعة" و"القطارات تحمل الإنسان عبر جبال العالم، فالمساحات الشاسعة لا تُشكِّل عائقاً الآن. ومع هذا، فنحن نتذمر من مشكلة تكاثُف السكان (وخصوصاً اليهود). إن الانقلاب الصناعي وحركة المواصلات يمكنها أن تحل مشاكل الإنسان [الغربي] ومن بينها المسألة اليهودية". وعبارة «الانقلاب الصناعي وحركة المواصلات» البريئة تعني في واقع الأمر الانقلاب الإمبريالي الذي هيمن على العالم، والذي أمكنه، من خلال الاستعمار الاستيطاني، حل "مشكلة تكاثف السكان".
وبعد أن أكد هرتزل للدول الغربية أن نَقْل الشعب العضوي المنبوذ هو الحل المطروح، فإنه يبين لهم منافع الحل الصهيوني المطروح. فبالنسبة للدولة الراعية، ستكون الهجرة هجرة فقراء وحسب، ولذا فإنها لن تؤثر على اقتصادها. كما أن الخروج سيتم تدريجياً، دون أي تعكير، وستستمر الهجرة من ذلك البلد حسب رغبة ذلك البلد في التخلص من اليهود. كما أنه يذكر بشيء من التفصيل الثمن الذي سيدفعه اليهود (الدور الذي سيلعبونه والوظيفة التي سيؤدونها) ومدى نفعهم للراعي الاستعماري الذي سيضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ:
أ) ومن الجدير بالذكر أن الحكومات المعنية ستستفيد من هذه الهجرة استفادة كبيرة.
ب) ولو كانت الحكومات المعنية هي السلطان العثماني، فإن الفوائد تكون بالغة الكثرة:
ـ فلو يعطينا جلالة السلطان فلسطين لكنا نأخذ على عاتقنا مقابل ذلك إدارة مالية تركية كاملة.
ـ ستستفيد هذه السلطات بالمقابل إذ أنها ستدفع قسطاً من دينها العام وستقيم مشاريع نحتاج إليها نحن أيضاً.
ـ يمكن وضع النفوذ الصهيوني في خدمة السلطان، كأن تقام حملة صحفية ضد الأرمن الذين كانوا يسببون له المتاعب.
ـ ويمكن أن يؤسِّس الصهاينة جامعة في إستنبول لإبعاد الشباب التركي عن التيارات الثورية في الغرب.
ـ وأخيراً، فإن هجرة اليهود ستبعث "القوة في الإمبراطورية العثمانية كلها" وهو مطلب ألماني إنجليزي في ذلك الوقت (ضد الزحف الروسي)
جـ) أما لو تم اختيار الأرجنتين كموقع للاستيطان، فمن مصلحتها أيضاً أن تقبلنا في أراضيها.
د) وسواءٌ تم التهجير إلى الأرجنتين أو إلى فلسطين أو أية منطقة أخرى، فإن فكرة خَلْق دولة يهودية أمر مفيد للأراضي المجاورة، ذلك لأن استثمار قطعة أرض ضيقة يرفع قيمة المناطق المجاورة، وستبعث هجرة اليهود قوة في تلك الأراضي الفقيرة.
هـ) ولأن هرتزل كما بيَّنا كان يعرف أن الحكومات المعنية هي في الواقع القوى الغربية، لذلك فهو يقدم لهم قائمة كاملة شاملة:
ـ بهذا الخروج ستكون نهاية فكرة معاداة اليهود، وبالتالي لن يحس الغرب الليبرالي بالحرج بسبب عنصريته الواضحة.
ـ ومما لا شك فيه أن الدول الغربية ستجني فوائد أخرى مثل تخفيف حدة الانفجار السكاني، كما ستفيد من كل المشاكل الناجمة عن وجود شعب عضوي غريب.
ـ وفي تحليله أسباب معاداة اليهود، قال هرتزل: "عندما نسقط نصبح بروليتاريا ثورية، نقود كل حزب ثوري، وعندما نصعد تصعد معنا قوتنا المخيفة"، ولذا فإن الصهيونية ستقوم بتخليص الغرب من أحد العناصر الثورية بتسريب طاقتها الثورية في القنوات الصهيونية.
و) ولكن أهم منافع الصهيونية أنها ستُحوِّل المادة البشرية اليهودية إلى عملاء للدولة الغربية مانحة السيادة ويأخذ هذا أشكالاً كثيرة:
ـ فبالنسبة للصهاينة الاستيطانيين: يمكن حل المسألة الشرقية والمسألة اليهودية في آن واحد. وسوف يكون لهذا الحل تأثير في العالم المتحضر [الغربي] بأسره ويكون ذلك بأن "يقام هناك [في فلسطين] حائط لحماية أوربا وآسيا [دولة وظيفية] يكون بمنزلة حصن منيع للحضارة في وجه الهمجية. ويتوجب علينا كدولة محايدة أن نبقى على اتصال مع أوربا التي ستضمن وجودنا بالمقابل". وهو يرجو أن تدرك إنجلترا مدى القيمة والفائدة التي ستعود عليها من وراء كَسْبها الشعب اليهودي.
ـ ولا ندري هل أدرك هرتزل منذ البداية الإستراتيجية الصهيونية الحالية الرامية إلى تفتيت الشرق العربي إلى جماعات دينية وإثنية، فهو يقول: "إن تَحسُّن وضع اليهود سيساعد على تَحسُّن وضع مسيحيي الشرق". فهو بعد أن ربط مصير اليهود بالغرب، يرى إمكانية طرح السيناريو نفسه بالنسبة لمسيحيي الشرق.
ـ أما بالنسبة لليهود الذين يمكثون خارج فلسطين (الصهاينة التوطينيون)، فيمكن تحويلهم إلى عملاء للدولة مانحة السيادة، فتحصل إنجلترا على عشرة ملايين عميل يضعون أنفسهم في خدمة جلالها ونفوذها.
وانطلاقاً من كل هذا، يطرح هرتزل الحل: "يجب ألا يأخذ الخروج شكل هروب أو تسلُّل، وإنما يجب أن يتم بمراقبة الرأي العام [الغربي]. هذا ويجب أن تتم الهجرة وفقاً للقوانين وبمعاونة صادقة من الحكومات المعنية [الغربية طبعاً] التي يجب أن تضمن وجودنا لأن اليهود لا يمكنهم أن يفعلوا ذلك بأنفسهم". وهكذا رفض هرتزل تماماً فكرة الانعتاق الذاتي باعتباره حلماً رومانسياً، وطرح حتمية الاعتماد على الإمبريالية (وهذا هو مربط الفرس الذي لم يتنبه إليه أي مفكر صهيوني آخر من قبله). ولذا، فإن القول بأن أفكار هرتزل كانت كلها في كتابات أحباء صهيون قول صادق وكاذب في آن واحد! صادق إذا ما فتَّتنا الأفكار إلى وحدات صغيرة، مثل: فكرة الدولة اليهودية، فكرة وطن قومي لليهود، فكرة الاستيطان... إلخ، ولكنه كاذب إذا ما نظرنا إلى البنية الكامنة أو إلى الإطار الكلي المبتكر.
وعندما تتضح الأمور عند هرتزل، فإنه يتقدم بمطالبه للحكومات الغربية المعنية.. "امنحونا سلطة على قطعة من الأرض في هذا العالم [غير الغربي] تكفي حاجاتنا القومية المشروعة، ونحن سنعمل ما يتبقى". ويكرر هرتزل الفكرة نفسها في موضع آخر "متى أظهرت القوى الدولية [الغربية] رغبة في مَنْحنا السلطة فوق قطعة أرض محايدة [أي خارج أوربا] ستعمل جمعية اليهود مع السلطات الموجودة في تلك الأراضي [أي الدولة العثمانية أو الحكومة الأرجنتينية أو غيرها من الدول] وتحت إشراف القوى الأوربية [المصدر الوحيد للسلطة]".
وبهذا، يكون هرتزل قد قدَّم الحل: دولة يهودية ذات سيادة تُؤسِّس خارج أوربا، مصدر سيادتها هو العالم الغربي، أي أنه سيحقق السيادة من خلال العمالة للقوى العظمى الغربية صاحبة القرار في العالم في ذلك الوقت. وهو بذلك قد توصَّل للآلية الكبرى لتنفيذ المشروع الصهيوني وهي الإمبريالية، وللإطار الأمثل وهو الدولة الوظيفية التي سيتم توظيف اليهود من خلالها لصالح العالم الغربي. بل ستُحل مشكلة الهوية اليهودية حلاًّ عبقرياً، فهو يُخرج اليهود من التشكيل القومي الغربي، ويُخلِّص الغرب منهم، ولكنه يُدخلهم الغرب مرة أخرى عن طريق التشكيل الاستعماري الغربي، إذ يبدو أن الدولة الوظيفية سيتم استيعابها في الحضارة الغربية وتصبح دولة مثل كل الدول الغربية. إن الغرب العنصري (ويهود الغرب المندمجين) لم يكونوا على استعداد لتقبُّل الشعب اليهودي العضوي المنبوذ داخل الغرب، ولكن مَنْ الذي يمكنه أن يرفض الشعب اليهودي العضوي الذي يحقق هويته اليهودية هناك بعيداً عن الغرب، داخل دولة وظيفية تقوم على خدمته وتظل تربطه به علاقة؟
الأربعاء يونيو 22, 2016 6:44 pm من طرف khaled
» القضاء الاداري يصدر حكما بإلغاء اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية
الثلاثاء يونيو 21, 2016 5:25 pm من طرف khaled
» جبتلكو سلسلة رويات رجل المستحيل المعروفة للتحميل المباشر
الإثنين ديسمبر 28, 2015 5:53 pm من طرف abazer
» العلاقات المصرية السودانية في عهد محمد علي وخلفاؤه
الجمعة يناير 17, 2014 10:28 am من طرف khaled
» انجولا وحظر الاسلام (1)
الخميس نوفمبر 28, 2013 12:21 pm من طرف Ibrahimovech
» التفسير الاقتصادي للتاريخ
الأربعاء يونيو 19, 2013 1:34 am من طرف khaled
» كرسي العناد ........ السلطة سابقا
الثلاثاء يناير 29, 2013 5:56 pm من طرف khaled
» جمهورية جزر القُمر الاسلامية الفيدرالية دراسة جغرافية
الأحد يناير 06, 2013 2:21 am من طرف khaled
» بعض الفروق السياسية بين المجلس العسكري الي حكم مصر بعد الثورة وبين الاخوان لما وصلوا للحكم
الأربعاء نوفمبر 28, 2012 6:14 pm من طرف khaled